لا ينام العراسلة. منذ وقف إطلاق النار في الجرود، وهم خارج بيوتهم. منهم من يجول على مخيمات اللاجئين، للسؤال عن الأحوال، والإستفسار عن أعداد الذين يرغبون بالمغادرة، ومنهم من يحاول التوجه إلى أقرب نقطة من الجرود، في محاولة لمشاهدة ما طالت زيارته النظر ورؤيته.


تبدو عرسال وكأنها تتنفّس من جديد. لا تُخفى حال الارتياح على أبنائها. وحده الأسف على الشهيد أحمد الفليطي ينغّص على العراسلة تنفّس الصعداء. يعتبرونه الخسارة الكبرى على طريق فك الحصار عن بلدتهم. عدا ذلك، يعبرون صراحة عن ارتياحهم. دخول الجيش إلى البلدة، وموقف الأهالي، كانا كفيلين بإثبات أن البلدة الحدودية، ليست قندهار، ولا ستالينغراد. والأهم من ذلك، بالنسبة إليهم، أن موقفاً ظهر أخيراً بأنهم ليسوا عاصين على الدولة ومؤسساتها، ولا متعاطفين مع المسلّحين، بل يؤكدون أنهم متضررون من وجود الفصائل المسلّحة وحزب الله في أراضيهم وبساتينهم. يتنفسون الصعداء لأنهم يعلمون أن الجيش سيتسلّم زمام المبادرة في كل الجرود، ولم تعد المسألة سوى مسألة وقت.

ثلاث ساعات تستغرقها الطريق من بيروت إلى عرسال. بعد اجتياز بعلبك. يظهر جليّاً حجم الاستنفار الإيجابي هذه المرّة على طول الطريق إلى عرسال. اشتهرت هذه الطريق في السنوات الأخيرة، بحالات الإستنفار السلبي، وقطع الطرق، سواء من قبل أهالي عسكريين مخطوفين، أم من قبل بقاعيين قطعوا الطرقات على العراسلة بهدف الإنتقام. المشهد يختلف كثيراً الآن. رايات حزب الله وحركة أمل المرفوعة والمواكب الجوّالة تهلّل لإنتهاء هذه المشكلة، وتستعدّ لاستقبال جثامين خمسة لعناصر الحزب تمّت استعادتها بموجب المرحلة الأولى من الاتفاق الذي يقضي بانسحاب مسلحي جبهة النصرة من جرود عرسال.

لدى الوصول إلى بلدة اللبوة، وهي البلدة المعبر الوحيد إلى عرسال، يخال المرء وكأن هناك تظاهرة: عناصر من الصليب الأحمر، عسكريون، وعناصر من حزب الله ومدنيون. جميعهم ينتظرون منذ الساعات الأولى ليوم الأحد، إتمام عملية التسليم والتسلّم للجثث. لم تغب عمليات ضخّ الأخبار، والشائعات السلبية طوال اليوم. خبر بعد خبر كان يسهم في إحباط المنتظرين، كتراجع جبهة النصرة عن الاتفاق، أو تراجعها عن الالتزام ببعض بنوده. بالتالي، العودة إلى النقطة الصفر. استمر هذا الخبر بالتداول لدقائق، حتى خرج أحد المعنيين لينفيه، مؤكداً أن العملية تحتاج إلى مزيد من الوقت، للتأكد من الجثامين، ولإنجاز الترتيبات اللجوستية. فيما السبب الأساسي خلف التأخير، انقسم إلى قسمين، الأول الحاجة إلى إجراء فحوص تثبت هوية جثتين لعنصرين من الحزب، والثاني أن النصرة غالباً ما تلجأ إلى المماطلة في هكذا لحظات، طمعاً بتحصيل مزيد من المطالب، وكسباً للوقت لإتمام كل العمليات عندما يحلّ الظلام. لذلك، عند وجوب تسليم جثث عناصر الحزب إلى الصليب الأحمر، رفضت النصرة استخراج جثتين، وطلبت من الصليب الأحمر أن يفعل ذلك بنفسه. تردد عناصر الصليب الاحمر، وعمدت النصرة إلى اعطاء إحداثيات خاطئة عن مكاني دفنهما. ما احتاج إلى مزيد من الوقت للعثور عليهما. ما كانت تفعله النصرة في هذه اللحظات، هو اللعب على الأعصاب، والاستثمار في الوقت، للإشارة إلى أنها لاتزال طرفاً قوياً وقادراً على فرض الشروط أو تغييرها. هو نوع من الحرب النفسية التي تتبعها النصرة.

كان الأهالي، من عرسال والبقاع، يخشون عرقلة التسوية في اللحظات الأخيرة. أكثر ما يخافونه هو شيطان التفاصيل. والخشية الأكبر لديهم، عودة احتمالات القتال أو الإشتباك. ليس الدخول إلى بلدة عرسال سهلاً، وليس صعباً. لا شك في أن التفكير فيه يضعك أمام حيرة أو رهبة، بسبب ما هو متداول عن حال البلدة. بعد اجتياز اللبوة وقبيل الوصول إلى مدخل البلدة الشرقي، ثمة حاجز للجيش اللبناني، يجري التدقيق بهويات الداخلين والخارجين، وبعده حاجز عين الشعب، الذي يشبه ثكنة عسكرية مستحدثة هناك، ويقع في منحدر تحيط به تلال من مختلف جوانبه، ينتشر الجيش اللبناني بشكل ظاهر للعيان. هذه التلال تشرف على كامل أحياء البلدة.

تجتاز الحاجز صعوداً، لتبدو الحركة طبيعية في أول حيّ عرسالي، في رأس السرج، والمهنية. هذه المناطق شهدت اشتباكات عنفية في العام 2014، لكن بعد الاجراءات التي اتخذها الجيش، لم يعد بإمكان المسلّحين الوصول إليها، بل أصبحوا بعيدين من هناك، لأكثر من خمسين كيلومتراً. يهلل العراسلة لكلّ غريب. يتحلقون حول زوارهم. ولكل منهم رأي، لكنهم يتفقون على ثوابت أساسية، أن البلدة تريد الهدوء والعيش بسلام. يطالبون بدخول الجيش اللبناني، واجراء دوريات مستمرّة، للشعور بالأمان، وللتأكيد أن عرسال ليست عصية على الدولة. من رأس السرج، يمكن للعين المجرّدة أن ترى أطراف البلدة المترامية، بيوتها، مخيمات اللاجئين فيها، واجراءات الجيش على نقاط بعيدة ومتقّدمة لجهة الجرود الشرقية، أي للجهة السورية.

في نظرة بانورامية، يمكن ملاحظة الزنّار العسكري الذي يقيمه الجيش حول البلدة، هو شريط أمان، أو حزام أمان، أقامه الجيش وعمل على مدى الأشهر الماضية، على وصل التلال ببعضها البعض عسكرياً وبالمعنى الناري، لمنع حصول أي عمليات تسلّل. لولا أن حديث الجرود هو شغل العراسلة الشاغل، وحديث الساعة، لا يمكن ملاحظة ذلك في ساحة البلدة. الحركة طبيعية، إن لم تكن أكثر من طبيعية. وهي التي توحي بأن البلدة تمرّ في ساعات إنتقالية.

يبدي العراسلة ارتياحهم لإنسحاب المسلّحين من جرود بلدتهم، وإعلانها آمنة، لكنهم يخشون أن يستمرّ حزب الله فيها. يطمئنهم رئيس البلدية باسل الحجيري، بأن الجيش هو الذي سيتسلم كل المواقع، وسيتم السماح لهم بالذهاب إلى بساتينهم ومقالعهم وكساراتهم. يأملون ذلك. ويكررون رجاءهم بتخفيف الاجراءات على الحواجز المقامة على الطرق المؤدية إلى مصادر رزقهم، لأن الزحمة التي تتسبب بها هذه الاجراءات، تحول دون وصولهم إلى مراكز عمل بشكل يسير.

يتفق العراسلة على عبارة واحدة: "سوف نبقى هنا". يردّون بذلك على الشائعات والتحليلات التي تقول إنه سيتم تهجيرهم من أراضيهم، كما حصل في بعض المناطق والمدن السورية. هذا الكلام يستنفرهم، ويدفعهم إلى الشعور بالغضب، ليؤكدوا أنهم لن يسمحوا لأي طرف أو جهة بإقتلاعهم من أراضيهم، وبأن الدولة اللبنانية هي المسؤولة عنهم وعن سلامتهم.

لا يختلف وضع مخيمات اللاجئين السوريين عن وضع العراسلة. هناك حال من الوحدة بينهم. يشير اللاجئون إلى ارتياحهم من انتهاء المعارك في تلك المنطقة. البعض منهم يرغب في الذهاب إلى سوريا، خوفاً من عمليات دهم جديدة على غرار ما حصل في السابق، والتعرّض للضرب أو التوقيف أو الإهانة. لذلك، يفضلون الإنتقال إلى الداخل السوري. ويقول أحدهم إنه يفضّل الذهاب والموت ببراميل متفجّرة أو بصواريخ الطائرات، على أن يبقى هنا ويتعرّض للإهانة أو التعذيب. فيما آخرون، يؤكدون أنهم يرغبون بالعودة إلى مدنهم وقراهم، متمنين إيجاد حلّ ومناطق آمنة لهم. يرفضون الإنتقال ضمن الصفقة الحالية، كي لا يصنّفوا إرهابيين أو غادروا مع جهة عسكرية مصنّفة إرهابية.

إحدى القضايا الأساسية والمهمّشة في عرسال هي الإصابات التي تعرّض لها لاجئون مدنيون كانوا في مخيمات وادي حميد والملاهي، نقل كثير من الجرحى والضحايا من تلك المخيمات إلى مشفيين ميدانيين في عرسال لأجل تلقي العلاج. وهم يشيرون بأسف إلى عدم ذكر حالاتهم وما تعرّضوا له. ويؤكدون أن الإصابات في صفوفهم بالعشرات أو المئات بسبب قصف تعرضوا له، قالوا إن مصدره حزب الله، وهدفه الضغط على المسلحين للرضوخ إلى شروطهم ومطالبهم ووقف القتال والقبول بالإنسحاب.

لم يكن الأحد، يوماً عرسالياً طويلاً فحسب، كان يوماً بقاعياً ولبنانياً. مرّت الساعات وكأنها أيام. وهكذا هي حال الإنتظار طوال فترة إنجاز الصفقة بكامل مراحلها. كان لوصول المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، إشارة إيجابية على مسار الأمور. وكانت الإشارة إلى اقتراب موعد إتمام المرحلة الأولى، حيث كانت جثامين تسعة عناصر من النصرة موجودة في مقر قيادة اللواء التاسع في اللبوة. وقد نقلتها سيارات الصليب الأحمر إلى جرود عرسال، تزامناً مع نقل جثامين خمسة عناصر من حزب الله من الجرود في اتجاه اللبوة. وهنا كان حزب الله يشترط على النصرة أن تسلّم الأسرى الثلاثة الذين ضلّوا طريقهم قبل أيام في الجرود وعملت على خطفهم. تشدد حزب الله في هذا المطلب قبل بدء المرحلة الثانية التي تتضمن البدء بانتقال قوافل المسلحين والمدنيين إلى الداخل السوري مقابل الإفراج عن أسرى الحزب الخمسة.