لو أجرينا اليوم استفتاء في أيّ بلد عربيّ: من الذي يؤيّد نظاماً ينهض على مبادئ القانون والحرّيّة والمساواة، لانتهينا إلى أقلّيّات هزيلة تؤيّد. هذه الأقلّيّات زادها ضموراً انهيار الثورات العربيّة ما بين تحطيم خارجيّ وتحطيم ذاتيّ، فاندفع البعض إلى إيثار الوضع القائم، أي الاستقرار والأمان كيفما اتّفق. تلك الأقلّيّات إيّاها يُرجّح أن تزداد ضموراً: ذاك أنّ الأديان والطوائف والإثنيّات، المتورّطة في النزاعات، ستستعيد بعض أبنائها «الضالّين» الذين لا تزال تتوزّعهم الحيرة بين العقل والغريزة، أو بين الضمير والجماعة. في المحيط العريض، سوف يزداد الالتحام بالبنى التقليديّة طلباً للحماية و/أو طلباً للترقّي. ما تبقّى من حقوق الإنسان سيُسحق، والمنظّمات والجمعيّات التي تدافع عنها ستبحث عمّن يدافع عنها.
تجربة لبنان مع اللاجئين السوريّين اليوم تقول، للمرّة الألف، إنّ الاختلاف في درجة الصلة بحداثة وحيدة الجانب، حداثةٍ من دون القانون ومن دون النزعة الإنسانيّة، لا يعني الكثير على صعيد كهذا.
الوضع الموصوف سوف يضعنا، في مستقبل بدأت نذره بالظهور، أمام مأساة تتجاوز المآسي التي سبقت، لتولّد سلسلة لا متناهية من المآسي. فلا الحاكم سيكون قابلاً للمساءلة، ولا زعيم الطائفة، ولا شيخ العشيرة. الاستبداد سيهبط من موقعه المركزيّ إلى تضاعيف العلاقات الاجتماعيّة في جميع مستوياتها الدنيا. معه ستشعّ علينا كراهيّات مقدّسة بلا حدود، وستُفتح عرسالات لا نهاية لها.
لكنْ لنتذكّر قليلاً التسعينات، عقد «العرس الديموقراطيّ» الكونيّ، بالجدّيّ فيه والفولكلوريّ. يومذاك بدا النشاز العربيّ في عدم الطلب على الديموقراطيّة مدعاة لطروحات بائخة وتبسيطيّة عن «صراع الحضارات». اليوم، وفي معزل عن تعداد الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، ستبدو الهوّة أكبر بلا قياس ممّا كانت عليه في التسعينات. إلى ذلك، ستكون الهجرة الكثيفة التي شهدها العامان المنصرمان الصنّارة التي سيصطاد بها الكثيرون صيدهم المسموم، متأكّدين من صلابة براهينهم وملموسيّتها.
ولقائل أن يقول: إنّ الغرب نفسه تردّى ويتردّى، وهذا صحيح. لكنّ الفارق بين تردّيه، أو كبوته، وبين تردّينا، لا تخطئه إلاّ عين المتستّر على انهيارنا، أو من يجمّله. ففي مقابل حروبنا المفتوحة والمؤجّلة، تطالعنا الأخبار يوميّاً باحتمالات عزل ترامب (الذي بحسابات الأرقام رسب في الانتخابات الرئاسيّة). واستطاعت فرنسا أن تبعد مارين لوبن، فيما تتهيّأ ألمانيا لتجديد الانتخاب لأنغيلا مركل. اليمين المتطرّف، فوق هذا، لم يحظَ بموقع مؤثّر في البرلمان الهولنديّ ولا حظي بالرئاسة النمسويّة. حتّى بولندا، تعلن أكثريّتها الكبرى رفضها القانون الجديد الذي يُخضع المحكمة الدستوريّة وتعييناتها للسلطة السياسيّة. إنّها تهبّ دفاعاً عن فصل السلطات. فوق هذا: ليس ما يعانيه الغرب من طينة جيولوجيّة. ليس فناء وبقاء وإعادة تشكّل. نحن نعاني هذا.
ما يقال لا يقال للإيحاء بأنّ سائر العالم يعيش ألمع لحظاته. «هناك»، لا تزال مقاومة الانحطاط تملك ضماناتها القويّة. «هنا»، يملك الانحطاط ضماناته الهائلة القوّة.
هل نحن حيال موجة جديدة من «صراع الحضارات» تطحننا، بعد كلّ الطحن الذي تعرّضنا له في العقود الفائتة؟
الأسوأ أنّه إذا كان هذا التعبير الإيديولوجيّ يتضمّن «وحدة» بين أبناء «الحضارة» في مقابل «وحدة» بين أبناء «الحضارة» الأخرى، فإنّ أحوالنا البينيّة، حروباً وأحقاداً، بليغة جدّاً في فضح هذه النظريّة برمّتها... إلاّ أنّنا قد ننتهي إلى وضع لا نعود معه نملك الصوت واللسان كي نعلن ذلك!