الجولةُ على واشنطن فموسكو فباريس أفضلُ خطِّ سيرٍ يُمكن أنْ يَسلُـكَه رئيسُ حكومةِ لبنان في هذه الظروف، فالعاصِمتان الأُولَيان مِفتاحُ مصيرِ الشرقِ الأوسط، وباريس تَبقى الضامِنةَ التاريخيّةَ لأيٍّ اتفاقٍ دوليٍّ حولَ لبنان.
 

والشهر المُقبل سيتَبلورُ دورٌ فرنسيٌّ جديدٌ لأنّ ترامب، الذي وضَع مع ماكرون أسُسَ تحالفٍ استراتيجيٍّ جديد، بات يُحبِّذ أن تَضْطَلع باريس إلى جانب واشنطن بدورٍ مُكمِّلٍ في الشرقِ الأوسط لكي لا تُستَفردَ الولاياتُ المتّحدة في مواجهةِ إيران وفي التفاوضِ مع روسيا وفي قضية فِلسطين.

كان أفضلَ لو زار سعدُ الحريري هذه العواصمَ قبلَ لقاءِ ترامب / بوتين في هامبورغ (07 تموز)، ولقاءِ ترامب / ماكرون في باريس (13 تمّوز). أمّا، ولم يكن بوسعِ رئيسِ حكومة لبنانَ أن يَفرضَ المواعيدَ على كبارِ هذا العالم، وحكومتُه تَسبحُ في بحيرةِ خلافاتِها، فكان بمقدورِ وزارةِ الخارجيّةِ أن تُحضِّرَ ورقةً لبنانيّةً تقدِّمها إلى فريقِ عملِ كلٍّ من ترامب وبوتين وماكرون لتكونَ قضيّةُ لبنان حاضرةً في لقاءاتِهم. لكنَّ المؤسِفَ أنَّ الديبلوماسيّةَ اللبنانيّة، وهي السلاحُ اللبنانيُّ الأمضى، مغيَّبةٌ عن حركةِ العالمِ وتحوّلاتِ الشرق.

يبدو أنّ مصيرَ آليّةِ التعيينات أهمُّ من مصيرِ كيانِ لبنان، لا بل كأنَّ هناك تفاهماً ضِمنيًّا بين «أهلِ التسوية» على حصرِ عملِ وزارةِ الخارجيّةِ بما يُعرف بـ»الطاقةِ الاغترابيّة» وتعليقِ العملِ الديبلوماسيِّ حاليًا لعدمِ إحراجِ أحدٍ إنْ في الداخلِ أو في المنطقة.

ما مِن زمنٍ، منذ الاستقلال، احتاجَ لبنانُ إلى ديبلوماسيّتِه مثلما يحتاجُها في هذه المرحلة المصيريّة. لكنَّ تصرّفاتِ قادةِ لبنان، الرسميّين والسياسيّين، تَترك انطباعاً أنّهم لا يُـقدِّرون خطورةَ المرحلةِ بدليلِ أولويّاتِ اهتماماتِهم.

وحدَه حزبُ الله ـــ بغضِّ النظرِ عن موقفِنا منه ـــ يتعاطى مع الاستحقاقاتِ من مِنظارٍ استراتيجيٍّ ويُشارك في القرارِ ويواكب المتغيّرات من خلال نُخَبهِ وسلاحِه وشركائِه الإقليميّين، ويَطرح على حلفائِه مشروعَه للبنانَ آخرَ مثلما كنّا، نحن المقاومةَ اللبنانيّةَ، طرَحنا في السبعيناتِ والثمانيناتِ مشروعَنا على الولاياتِ المتّحدةِ وغيرِها وحقّقناه مع بشير الجميّل لأيامٍ معدودة. أمّا الدولةُ اللبنانيّةُ فتتنقَّل اليومَ بين مِهرجانٍ غنائيٍّ على أساسِ القضاءِ وعشاءٍ قرويٍّ على أساسِ الدائرة.

لقد فَقَد لبنانُ الروحَ الرياديّةَ التي امتاز بها الأجدادُ المؤسِّسون والآباءُ الاستقلاليّون والزعماءُ المقاوِمون. أين نحن من ديبلوماسيّةِ لبنان الفعّالةِ والمِقدامةِ والحاضِرة في المحافلِ الدوليّة ومراكزِ القرار تستعيدُ لبنان من سوريا الكبرى سنةَ 1920، وتُخرِجه من الانتدابِ الفرنسيِّ سنةَ 1943، وتُحيِّد عنه الحروبَ الإسرائيليّةَ الأربعَ في الخمسيناتِ والستّيناتِ والسبعينات، وتُعتِقُه من السيطرةِ الفِلسطينيّةِ سنةَ 1982، وتُحرّره من الاحتلالِ الإسرائيليِّ سنةَ 2000، وتُنقِذه من الوصايةِ السوريّةِ سنةَ 2005؟ بل أين نحن من ديبلوماسيّةِ إمارةِ الجبلِ التي حافظت على الاستقلالِ الذاتيِّ في عزّ السلطنةِ العُثمانيّة؟

إنَّ قِمّتَي هامبورغ وباريس تاريخيّتان امتيازاً: في هامبورغ أرسى ترامب وبوتين قواعدَ علاقاتٍ جديدةٍ بين دولتيهما بعد عودةِ روسيا إلى الساحةِ الدوليّة، وفي باريس جدَّد ترامب وماكرون التحالفَ التاريخيَّ بين دولتيهما بعد التباسٍ شابَ علاقتَهما إثرَ حربِ العراق سنةَ 2003. وفي القِمّتين حضَر الشرقُ الأوسط بكلِّ صراعاتِه وحروبِه وهَندَساتِه المقترَحةِ، وغابَ لبنان.

منذ نحوِ سنةٍ لم يُلفَظْ اسمُ لبنان في أيِّ لقاءٍ دوليّ. لا في قِمّتَي الرياض (21 أيار)، وبروكسل (25 أيار)، ولا في قِمّتَي هامبورغ (08 تموز) وفي باريس (13 تموز). وإنْ ذُكِر فللحديثِ عن «حزبِ الله» والعقوباتِ عليه، أو لتمريرِ الاستيطانِ السوريِّ بعد التوطينِ الفِلسطينيّ. إنّ العالمَ يَعتبر لبنانَ دولةً انزلَقت في المحورِ الإيرانيِّ ـــ السوريّ ويَتمُّ التعاملُ معه على هذا الأساس.

وإذا كانت الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّة تُواصِل دعمَ الجيشِ اللبنانيِّ بقوّةٍ فلأنَّ لبنانَ باتَ بالنسبةِ إليها «حالةً أمنية»، وهي تعزِّزُ الجيوشَ التي تحاربُ الإرهاب، ولأنّ الجيشَ اللبنانيَّ ضمانُ وحدةِ لبنان.

لذلك، استِلحاقًا لِما فات، لا بدّ للدولةِ اللبنانيّةِ من تأليفِ ثلاثِ لجانٍ ديبلوماسيّةٍ مؤقّتةٍ مع كلٍّ مِن واشنطن وموسكو وباريس للاطِّلاعِ المباشر على تطوّراتِ الأحداثِ ومسارِ استراتيجيّاتِ هذه الدول وللحفاظِ على كيانِ لبنان في هذا المخاض المجهول.

فخريطةُ الشرقِ الأوسط الجديد لم تُحسَم بعد، فهي مفتوحةٌ لتعديلاتٍ حسْبَ قوّةِ كلِّ مُكوِّنٍ شرقِ أوسطيٍّ وتأثيرِه وحذاقةِ ديبلوماسيّتِه. ما يَعني أنَّ أمامَ لبنان فرصةَ المُرافعةِ عن وجودِه ودورِه. وهناك عواملُ مساعِدةٌ لذلك: روسيا أصبحت دولةً صديقةً بعد تحوُّلِها الفكريِّ والعقائديّ، أميركا لا تَنفَكُّ تُشجِّع الدولةَ اللبنانيّةَ على استعادةِ نفسِها وقرارِها، وفرنسا حليفةٌ تاريخيّةٌ للبنان.

محورُ عملِ اللجان بسيط: الحفاظُ على الكيانِ اللبنانيِّ وسْطَ المتغيّرات، وضعُ مشروعٍ تنفيذيٍّ لإعادةٍ فوريّةٍ للنازحين السوريّين إلى بلادِهم، إنقاذُ اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان من مأساةِ العيشِ في مخيّماتِ البؤسِ (والإرهابِ أحياناً) عبرَ تأمينِ دولٍ قادرةٍ على استيعابِهم من دونِ التذرّعِ بحقِّ العودةِ، ومساعدةُ الدولةِ على استعادةِ سيادتِها داخليًا وخارجيًا.

وفي هذا السياقِ مِن حقِّ اللبنانيّين أن يَعرِفوا ماذا يَحمِل رئيسُ الحكومةِ سعد الحريري إلى واشنطن وروسيا وباريس. «الشفافيّةُ الوطنيّة» تَفرُض ذلك.

فإذا كان يَحمِل أفكاراً من نوعِ تصريحِه يومَ الجمعة 14 الجاري حين أعلن: «تحت أيِّ ظرفٍ مِن الظروفِ لن نُجبِرَ النازحين السوريّين على العودةِ إلى سوريا»، فالأفضلُ أن يبقى هنا، لأنّ ترجمةَ هذا الكلامِ تَعني أنَّه سيُجبِر اللبنانيّين على مغادرةِ لبنان. أمّا إذا كان يَحمِل قضيةَ لبنان أوّلاً وأخيراً، فعلى الطائرِ المَيمون.