العالم الترامبيّ يمضي على رسله. لوحة كيتشيّة، والبعض يقول ما بعد حداثيّة، تضجّ بالأزمنة والأمكنة و... الخفّة واللعب: التحقيق متواصل في أميركا، يؤجّجه اللقاء المشبوه لنجله، دونالد ترامب الصغير، بالمحاميّة الروسيّة. ترامب يدعو من وارسو إلى صراع حضارات بين غرب (لا يفعل إلاّ تصديعه) وباقي العالم. في باريس، ينام في مجمّع عسكريّ هائل العظمة شيّده الملك– الشمس لويس الرابع عشر، ومنه يطلّ على ضريح نابوليون.
قبل ذلك كانت هامبورغ التي حضنت ودمجت عدداً أكبر من الغرائب. هامبورغ ليست يالطا أو بوتسدام، ولا هي ريكيافيك. القمّة الألمانيّة لم تعلن بدايات ونهايات، ولم تنجب خرائط جديدة. أخبار فلاديمير بوتين ودونالد ترامب (وابنته) نافست بنجاح النتائج السياسيّة التي تمخّضت عنها قمّة العشرين: مثلاً، كثيرون تنفّسوا الصعداء لأنّ ترامب لم يرتكب خطأ كبيراً هذه المرّة. بوتين، بدوره، لم يتعرّض لإهانات كان يتعرّض لها في لقاءات سابقة مع قادة غربيّين بسبب حقوق الإنسان وأحوال الديموقراطيّة في روسيا. الاثنان، ترامب وبوتين، أحبّ واحدهما الآخر واستغرق لقاؤهما وقتاً زاد ساعتين عمّا كان مقرّراً. ترامب «دقّق» في أمر التدخّل الروسيّ في الانتخابات الأميركيّة، لكنّ بوتين، على ما يبدو، نجح في تبديد شكوكه. فوق هذا، اكتشف الرئيس الروسيّ أنّ زميله الأميركيّ ليس كما يبدو في التلفزيون! الأخير وجد كلّ شيء «جميلاً» و «رائعاً».
بقياس القمم الكبرى، لا يُعتدّ بهامبورغ. لكنّ هذا لا يلغي أهميّتها حين تقاس الأهميّة بمعايير أخرى: فدونالد ترامب كرّس إدراج الولايات المتّحدة خارج مسار كونيّ عريض في ما يتعلّق بالبيئة والمناخ والاحتباس الحراريّ. هذا ليس بالأمر التفصيليّ فيما يتعاظم الإجماع حول البيئة، بوصفها مصدر الخطر الأكبر الذي يهدّد كوكبنا. إنّه يرتّب أيضاً تخلّفاً أميركيّاً عن اللحاق بالأوروبيّين والصينيّين في مجالات الطاقة البديلة والمتجدّدة. بعض ولايات أميركا قد تتفرّد بسياسات تخصّها، لكنّ الحصيلة الإجمالية يصعب أن تأتي لمصلحة أميركا. لنتذكّر أنّ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون سبق أن ناشد العلماء الأميركيّين الانتقال إلى بلاده.
كذلك أدرج ترامب الولايات المتّحدة في الاستثناء حيال مسألة التجارة الخارجيّة والنزعة الحمائيّة. صحيح أنّ المؤتمرين أقرّوا بحقوق الدول في أن تحمي مصالحها بموجب ما تراه ملائماً، لكنّ هذا «المكسب» لن يحمي مصالح الأميركيّين على المدى الأبعد.
أمّا في كوريا، حيث عوّل ترامب على الصين (وروسيا) كي تتوصّلا إلى تسوية مع كيم جونغ أون، فالردود جاءت عامّة لا تغني ولا تسمن. الصينيّون قالوا إنّهم يفضّلون أن يروا تلك المنطقة برمّتها منزوعة من السلاح النوويّ. حسناً، من الذي يستطيع أن يقول عكس ذلك؟ لكنْ ماذا بعد؟ أضافت بكين: نحن لسنا مسؤولين عن حلّ المشكلة. علّق ترامب، فيما كان السرطان يصرع ليو كسياوبو في زنزانته: زعيم الصين قائد عظيم. أستلطفه كثيراً.
في سوريّة، وعلى حدودها الجنوبيّة الغربيّة بالتحديد، حصل اختراق لا يزال مبكراً الجزم بنجاحه. إلاّ أنّ نجاحه، إذا تحقّق، سيكون رصيداً آخر يضاف إلى روسيا التي باتت وحدها تملأ «فراغات منطقة الشرق الأوسط». في المقابل، ليس واضحاً ما إذا كانت روسيا ستكافئ أميركا بمكافحة النفوذ الإيرانيّ في المنطقة، وليس واضحاً كيف سيتمّ ذلك.
ترامب الذي يتباهى بعقده الصفقات الماليّة الناجحة، لا يعقد صفقات ناجحة في السياسة. العالم، من ناحيته، يكتشف أنّ مساحة تعارضه مع ترامب تتّسع وتتزايد، وأنّ الخطر الذي يمثّله بوتين يتّسع ويتزايد هو الآخر.
شبّان هامبورغ وشابّاتها عبّروا، بطريقة بشعة وعنفيّة، عن هذه الحقيقة. الأشهر المقبلة قد تبلور للاحتجاج المزدوج طرقاً أخرى أكثر سلميّة وأجدى نفعاً في آن. هذه اللوحة، إن لم تتبلور، وإن لم تتكامل مع ما يجري في واشنطن من تحقيقات، ستتركنا أمام لوحة أخرى وحيدة: خفّة دونالد ترامب المكلفة جدّاً.