كان يُقال عند العرب، «بعد خراب البصرة».. منذ الآن يجب أن يُقال، «بعد خراب الموصل».

الدمار، الذي ضرب الموصل، يُجسّد ويؤكد أنّ كل حجر منها كلّف دماء ودموعاً كافية لصياغة روايات شعبية لقرون طويلة. السؤال الطافي الآن فوق مياه دجلة: ماذا بعد؟

تحرير الموصل، لا يعني أنّ الحرب انتهت. واقعياً بدأت حروب جديدة، تؤجّل السلام وإعادة الإعمار لفترة طويلة. من بين هذه الحروب الملحّة بدون أولويّة: تطهير باقي أرض العراق من الداء «الداعشي»، وهي مهمة صعبة وطويلة لأنها تتطلب مواجهة مباشرة مع الفكر «الداعشي» الذي انتشر ليس بفعل «داعش» فقط وإنما بالممارسات الفئوية والمذهبية التي قامت بها الميليشيات الشيعية. توقّف السياسة الميليشيوية، تبلور قيام الدولة العراقية على طريق السلام الأهلي والبناء.

في الوقت نفسه، العراق أمام خطر تقسيمه نهائياً، وذلك بعد الاستفتاء الكردي حول الاستقلال.

الخطر في فوز التوجّه الاستقلالي للأكراد، ليس عراقياً فقط وإنما إقليمي يجمع بين إيران وتركيا. قيام «جمهورية» كردية شمال العراق، سيكون حكماً مقدّمة لعمليّة استنهاض كردية – إيرانية، وكردية - تركية، تضع إيران وتركيا على مسار التقسيم عاجلاً أم آجلاً. لذلك السؤال: ماذا ستفعل إيران أمام هذا الخطر القائم؟ الذي أخطر ما فيه تحويله الى حلقة من عملية محاصرة النظام الإيراني حيث تتداخل فيها الإرادات الداخلية مع الخارجية، الأمر الذي سيؤجّج ردود الفعل المتبادلة بين النظام الإيراني والداخل الكردي غداً، و«النار» البلوشية الآن وأكثر في الغد!

لا شك أيضاً أنّ ترسّخ عامل وحدة المسار والمصير بين العراق وسوريا إن بسبب «داعش» أو بسبب إيران، يعمّق الحالة التدميرية للعراق. نهاية «داعش» في العراق ميدانياً، فتحت حكماً بسبب الاستراتيجية الإيرانية، طريقاً عريضاً بين العراق وسوريا. وإذا كان من المعروف الخطوط العريضة للاستراتيجية الإيرانية التي يقودها الجنرال قاسم سليماني الذي أصبح يوصف في إيران بأنّه «أعظم استراتيجي عسكري في التاريخ»، فإنّ الموقف الأميركي – الروسي غامض لا يمكن بناء ردود الفعل عليه بشكل واضح وثابت ونهائي. المصالح المتناقضة، تحول دون رسم خريطة واضحة للمستقبل، ذلك أنّ موسكو يهمّها التفاهم مع واشنطن خصوصاً بعد قمّة العشرين، ولكنّها معنيّة استراتيجياً بمصير سوريا ومستقبلها. لقد رسم «القيصر» بوتين خطاً أحمر من موسكو الى الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، لا يمكنه التراجع عنه، لأن به دخل تاريخ روسيا منذ قيامها حتى الآن. لقد كان هذا الخط والتمدّد على الشاطئ الحار حلماً روسياً فأصبح حقيقة على يد «القيصر». لذلك فإن أي مفاوضات حالية أو لاحقة لا يمكن أن تتمّ سوى تحت هذا «السقف» الذي يمكن تقديم تنازلات تحته ولكن ليس خارجه.

أما سوريا «أمّ المشاكل»، فإنّ التفاؤل بأنّها دخلت على خط الحلّ مُبالغ به كثيراً. ما زال أمام السوريين رحلة طويلة جداً من الألم والدمار والدماء، لأنهم واقعون بين «مطرقة» القوتين الكبريين أميركا وروسيا، والقوى الإقليمية الإيرانية والتركية والإسرائيلية، و«سندان» قوى سوريّة مشرذمة بفعل تلاعب جميع القوى بها، فاختارت مصالحها الآنية باسم الالتزام السياسي الذي أسقطها في شِباك «داعش» و«النصرة» فجعلها «طريدة» مطلوب اجتثاثها. عندما يبلغ عدد الفصائل السورية المسلحة الملتزمة بالهدنة رسمياً 228 فصيلاً مسلحاً يعني أنّ أزمة بيروت في الحرب الأهلية كانت أقلّ تشرذماً وتقاتلاً.

اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غربي سوريا، جعل من إسرائيل طرفاً أساسياً فيه. ما دفع نحو هذا التحوّل، توجّه موسكو نحو الأخذ بالمطالب الأمنية الإسرائيلية التي يمكنها نسف كل الخطط الروسية إذا وقع الخلاف المستحيل بينهما، إضافة الى المساندة الأميركية الاستراتيجية لإسرائيل.

لكن الأهمّ من كل ذلك، الشراكة الإسرائيلية - الأميركية في المواجهة مع إيران والعمل على إخراجها من «وراثة» «داعش» سوريا بأي طريقة من الطرق.

إستحالة الحرب الأميركية – الإسرائيلية الشاملة ضد إيران، جعلت إسرائيل تعمل «على إبعاد إيران ووكلائها من داخل سوريا خصوصاً في محاذاة الجولان». في قلب السياسة الإسرائيلية، وبموافقة ودعم أميركي العمل على إبعاد «حزب الله» ومَن معه بعيداً عن الجولان حوالى 50 كلم، ومن ثمَّ العمل على مواجهة انتشار سلاحه الصاروخي، خصوصاً المستجدّ منه في بناء مصنع أو أكثر لإنتاج الصواريخ وأسلحة أخرى في لبنان.

جنيف - 5 لن يضيف شيئاً الى الحل السلمي والسياسي في سوريا، لكنّه يُشكّل إضافة تضيء الاتجاهات والتوجهات الأميركية – الروسية. لأنّ سوريا أصبحت مشكلة روسية – أميركية قبل كونها إيرانية – عربية – تركية.

لذلك فإنّ الاتفاق بين موسكو وواشنطن، يتطلّب المزيد من القمم بين «القيصر» بوتين والرئيس دونالد ترامب. في وقت تشكّل سوريا، ملفاً من ملفات عديدة أبرزها وأهمها كوريا الشمالية وأوكرانيا. التطورات هي التي تقدّم ملفاً على ملف والعكس صحيح.