تندرج رسائل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الاستباقية، كما يعتبرها البعض، في إطار الحرب المعنوية. فالحروب لا ترتكز على أعداد المقاتلين، إذ إن الاهتمام يتركز على نوعية المقاتلين والأسلحة التي بحوزتهم. وفي الوقت نفسه لا يخرج الكلام عن سياق قتال الحزب في سوريا، فعدم الوضوح بشأن ما سيحصل في سوريا، وعدم وضوح الرؤية الأميركية لسوريا، بالنسبة إلى الإيرانيين، هو دليل على أن الحرب المعنوية مستمرة.

ثمة احتمالان لهذا الكلام: الأول حصول تواطؤ بشأن فتح إيران الطريق البري من بيروت إلى طهران، ومعه تغدو القواعد الأميركية التي يتم إنشاؤها في شرق سوريا، ضمن سيناريو تقاسم مناطق النفوذ بين طهران وواشنطن، لأنه لا يمكن فتح هذا الممر بهذه السلاسة وبدون التعرض لغارات أميركية. والاحتمال الثاني، هو أن تكون إيران فعلاً متخوفة من أي تطورات. بالتالي، فإن كلام نصرالله يأتي في سياق توجيه تهديدات استباقية تحسباً لأي ضربة قد يتعرض لها محوره و"طريقه".

في العام 1976، وصلت القوات المشتركة من جيش التحرير الفلسطيني والحركة الوطنية اللبنانية إلى جرود جبل صنين. وفيما بدا أن الدفاعات العسكرية في المنطقة الشرقية قد سقطت، لم يعد لديها غير عبارة "العدو من ورائكم والبحر من أمامكم. في تلك الفترة، قال القيادي الفلسطيني الشهير صلاح خلف الملقب بأبي أياد، إن طريق القدس تمرّ بجونية. كانت تلك العبارة الخطيئة، إسقاطاً للدولة- الجغرافيا اللبنانية، التي كانت قائمة على تحالف المارونية السياسية، مع بعض الزعامات السياسية المسلمة.

في ذلك الوقت، حضر مبعوث الرئيس الأميركي إلى لبنان دين براون، والتقى رئيس الجمهورية في حينها سليمان فرنجية، الذي أصرّ على حضور اللقاء كل من رئيس حزب الكتائب بيار الجميل، ورئيس حزب الوطنيين الأحرار كميل شمعون، والأباتي شربل قسيس. وسأل براون مجالسيه عما ينوون فعله، فأجاب فرنجية مشيراً بيده إلى شمعون، قائلاً: "هذا الرئيس شمعون ولديه نجلان هما خلف المتاريس، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشيخ بيار الجميل، وأنا نجلاي في المتاريس أيضاً، أما الأباتي قسيس، فلأنه راهب لم ينجب أولاداً، لكنه مع جموع الرهبان أيضاً في المتاريس، وما سنفعله هو أننا سنبقى نقاوم حتى آخر شخص منا".

في ذلك اليوم، قال الجميل إنه لا ضير في التعامل مع الشيطان للحفاظ على لبنان وعلى وجودنا فيه. والشيطان هو إسرائيل التي لجأ إليها بعض الأفرقاء المسيحيين طلباً للدعم العسكري، في مواجهة الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين. وحينها تدخل الرئيس السوري حافظ الأسد لفك الحصار عن المنطقة الشرقية، كي لا يوغل المسيحيون في علاقتهم مع الإسرائيليين.

ثمة من يعتبر في تلك الفترة، ان المشروع الأميركي، كان يقضي بتوطين الفلسطينيين في لبنان، وتعزيز مفهوم الكيانات الطائفية والسياسية. لكن رفض ذلك حال دون تطبيق المشروع. واليوم، فإن مشروع إنشاء الكيانات يعود بقوة في سوريا، الفرز الديمغرافي والسياسي قائم. وإذا ما كان هناك توافق ضمني إيراني غربي على ذلك، فهذا يعني أن كلام نصرالله، قد ينطوي على مبدأ جلب الهزارة وشيعة آخرين لتوطينهم في المناطق السورية التي سيطرت عليها إيران. ويبدو أن لا أحد قادراً على مواجهة هذا المشروع، الذي يحقق تقدماً ملحوظاً.

أمر مشابه لتلك الأحداث يعود هذه الأيام، في ظل وضع متفجر، والمعبر الأساسي هو سوريا. كما قال أبو إياد، وكما قالها نصرالله سابقاً، بأن طريق القدس تمرّ في درعا وإدلب وحلب وكل المحافظات السورية، يضيف نصرالله هذه الأيام أن آلاف المقاتلين سيأتون إلى لبنان، لأجل المشاركة في أي حرب مقبلة أو محتملة. يمثّل هذا الإعلان جانباً خطراً بالنسبة إلى الأفرقاء الآخرين في لبنان، إذ يعتبرون أن نصرالله أطاح بكل مقومات الدولة، وأعلن لبنان ساحة لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية، فيما كان سابقاً يشدد على أن من يريد القتال فليذهب للمبارزة في سوريا. هذا التغير ينطوي على ما قد تأتي به التطورات الحاصلة في المنطقة، والتي من المرجح أن تتصاعد وتتسع. في مقابل صمت مطبق من أركان الدولة أجمعين.

صحيح أن الزمن وموازين القوى والشخصيات السياسية اختلفت ما بين حقبة 1076 واليوم، بالتالي إذا ما اتخذ بعض الساسة خياراً بالحصول على الدعم من إسرائيل، فلا خيار مماثلاً للمنزعجين والمتضررين الحاليين من هذا الكلام. داخل السلطة هناك معارضة، وخارج السلطة هناك معارضة أيضاً. لكن المعارضة السلطوية التي تتحدث عن ربط نزاع مع حزب الله، تسلّمه عملياً السياسة الخارجية، طالما أنها عاجزة عن اتخاذ موقف مغاير.

ثمة من يعتبر أن ما يحصل، هو للتأكيد على ثابتة إيرانية وحيدة، بأن لبنان ورقة في يد الجمهورية الإسلامية، وهو قابل لأن يتحول في أي لحظة يمناً آخر أو عراقاً جديداً، سواء أكان في السياسة، أم عسكرياً إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك. في مقابل عجز الأفرقاء المناهضين للحزب، وحتى إذا ما أرادوا استعادة استنهاض مشروعهم القائم على مبدأ مواجهة سياساته، فإن القطار قد فات.