1- أبدأ بتهنئة قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر والكاثوليك باستقالة البابا، كما هنأت الموارنة وغبطة البطريرك نصر الله بطرس صفير باستقالته. وأرجو أن تصيبنا العدوى، حتى لا يضطر السياسي الذي عيَّن الديني، الى إقالته عقاباً على تراجع ولائه لا أدائه. وأتمنى لهذه الديموقراطية المؤسسة للمسيحية الحديثة، على مخالفات صغيرة وكبيرة، كنسية وسياسية، أن تتجدد وتتعـاظم، حتى لا تصبح عرضة للانتقاص والنقص. كما قد يشير الاحتضان للقانون المرمي على الطائفة الأرثوذكسية الكريمة وهي أشد نزوعاً من غيرها الى العلمانية، وكما يشير الموقف المسيحي الأكثري ظاهراً، وغير المجمع عليه، في القبول بالاستبداد جراء خوف مفهوم، ومضخم من ضرائب الحرية، التي كانت وتبقى مهددة بالتزييف أو المصادرة، بقدر ما تتراخى قبضة الشعوب وتغفل عن دورها المشترك من أجل سلامها وخيرها المشترك، أو تتيح للثورة المضادة أن تصادر ثوراتها الحقيقية. وبدلاً من إسقاط النظام، أفكاره وقيمه، يُكتَفََى بإسقاط حاكم مستبد وفاسد، من دون مانع من أن يكون الخلَف أكثر استبداداً وفساداً من السلف.
2- أفيد بأني كتبت مقالة طويلة للنشر في مجلة الصرح البطريركي قريباً، عن الإرشاد الرسولي للشرق الأوسط، مودة مصوبة بالنقد، ونقداً محلى بالمودة، وإن كان الودّ فيها أكثر من النقد، فإني الآن سوف أرجح النقد على الودّ تلافياً لشبهة المجاملة، مفرقاً في شواغل النص وشغله بين الإرشاد للشرق الأوسط والإرشاد اللبناني في التسعينيات. من حيث ارتقاء النص الأول الى مستـوى الوجع اللـبناني جراء الانقسام، والحلم اللبناني المتفـتح جـراء الالتئام الذي عاد فانتكس... وعدم ارتقاء النص الثاني، الى مستوى التعقيد والتركيب في مشهد الشرق الأوسط، الحاشد بالوعود والوعيد. هذا مع أن نصوص قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر الشخصية، داخل الإرشاد وبعده، في زيارته للبنان، كانت أجمل، ورغم الترجمة المتعجلة، تلمح الى رؤية لا تفصِّلها .
3- هناك مفارقة بين تعريف المسيحيين بانهم حاملو الديموقراطية في التاريخ العربي الحديث، وبين ميل ظاهر لديهم لا يخفي الاعتراض، الى الانحياز للاستبداد، طلباً لسلامة الوجود والحضور... وكأنهم ذاهبون الى تناقض يتزايد بفعل إرادي لا يكفي لتبريره، نذيرُ شؤم يأتي من جهة التطرف الديني الاسلامي، من دون تهويل أو تهوين. وكثير من المسلمين، من أهل الشراكة، يستشعرون خطراً أشد وأقرب عليهم على حياتهم وأفكارهم، ولا يرون سبيلاً للخلاص إلا بالشراكة في رفض الاستبداد ورفض استغلال الحرية في منع الديموقراطية. ومن هنا يتحفظون على شعار حماية الأقليات ويرفعون شعار حماية التعدد، وتحرير الاكثريات العددية من حساباتها الخاطئة .
4- كانت عصرنة الكنيسة الملتبسة بالعلمنة، والتي قد تفضي بسلاسة الى علمانية إيجابية وصفها الإرشاد، تشكل لنا مساعداً في مقارعة الإسلام السياسي عندما يصرّ على إخراج الدين من المدينة، والمدينة من الدين، بالدولة الدينية، أي التي تلغي الدين بالدولة والدولة بالدين وتؤصل الاستبداد من غير أصل، وولاية الفقيه ليست أصلاً بل هي فرع خلافي في الفقه الشـيعي، والذين قالـوا بها على تردد ما، قبل السلطة، وإملاءاتها، أفراد من آلاف الفقهاء الشيعة... ومن دون ولاية الفقيه يصبح أمر الدولة الدينية فاقداً للدليل حتى الضعيف أو الملتبس، ومعلولاً لشهوة التغلب. والسنية تأسست كما في السقيفة على الفصل أو التمييز بين الديني والزمني، ما ركزه الماوردي لاحقاً بأن الخلافة لتدبير الدنيا وحماية الدين. وهنا أتمنى لصوتي الشيعي المحمل بمخاوف تأتيه من جهة كل المذاهب السياسية، على وسطية، أن أدعوكم الى التربص العاقل والذكي بالموعد الذي يقترب، لبلوغ الشمولية الإسلامية ذروة انكشافها وفشلها ولحاقها بسلفها الشيوعي والقومجي، مع الحذر من علمانية عقدية شمولية قد تخلفها وتضاعف مساوئها... ما قد يعني أن أفقنا مسدود وأن ثوراتنا التغييرية المفترضة قد لا تكون أفضل من انقلاباتنا السابقة التي كانت تقهقرية بخطابات تقدمية واستبدادية بحرية كاملة.
5- بناء على ما مرّ: هل يليق بالمسيحية المشرقية المتوهجة، والناقلة لأفكار الحداثة من الغرب لتوطينها بدلاً من التغريب والتشريق، أن تفاقم ذاتياً مخاوفها المسلّم بكثير منها، تسويغاً لانسحابها وسحب أهلها، من سياق التغيير والاستقبال والاحتجاج الذي كان مناطاً للفداء المسيحي؟
6- هناك إسلام سلفي نخاف منه أو أكثر من المسيحيين... ولكن هل كان البـعث في العراق وسورية معاصرة ومدنـية وتعـددية؟ لـقد كان ديانةً سلبـية مخادعـة تجاه الديـني والمدني. ومن هنا أباحت لنفسها انتهاكهما من خلال التبني لهما ظاهراً والفتك بهما واقعاً وعميقاً. وهل تكفي مصانعاته الملغومة والمشبوهة لـهذه الجـماعة أو تلك، وعلى حسابها وحساب الجميع، ولحساب الطغمة - الأسرة الجمهورية المالكة - فقط، هل تكفي في تبريره؟
7- إن التعبد للأعداد وبها، بدل التعبد لله بالوطن والمواطن والدولة الجامعة، أي المدنية، والمعرفة التي هي عبادة، والعبادة التي تأتي من معرفة وترسل الى معرفة... هذا التعبد هو سلوك، نستورد عناصره من الخارج، ونجمعها أو نوضبها في معاملنا الطائفية التحويلية؟ وفي تاريخنا الوطني كانت الأعداد ذريعة حصص ومكاسب، من دون أن تتحول الى مشروع فصالي، واستطاعت الثقافة المجتمعية في لبنان، أن تجعل إملاءات الفصال في لحظات المقت في الحرب، أمراً مرذولاً وعابراً. أما الآن فإنه متناغم مع أحلام إمبراطورية مشتقة من ذكريات إمبراطورية غابرة، متجددة في القرن السادس عشر، بين العثمانية والصفوية، على أساس نزاعات مؤسسة في تاريخ الانقسام المذهبي، على موجبات سياسية... ويعمل حاملوها على أطروحة تقدم القوة في مقابل الكثرة، أي تحالفات أقلوية في مقابل أكثرية سنية أو عربية، تصرف وقتها ومالها من دون مشروعات رؤية ومن دون جدوى... إن الذي في تركيا أو إيران، ليس دولاً دينية، بل قومية، إسلامية الثقافة العامة، سنية أو شيعية النكهة، أو الذريعة بلا اعتراض إلا على الاستغلال الرديء للأممية الإسلامية المستحيلة كوسيلة لغايات قومية قد تكون مشروعة ولكن الطريق إليها ملتوية. أما العرب فماذا والى أين بعد سقوط المستبدين، من قضى منهم نحبه، ومن يلزمه ويُلزمه التعجيل بالإصلاح حتى لا يلحق، وإن كان بعضهم يكابر، فإنه سوف يعود بخفي حنين ويمشي الى حتفه بظلفه!
8- عوداً على بدء... أنا لا أصادر ولا أتحفظ على الكلام الخائف على الوجود والحضور المسيحي في الشرق وفي بلاد العرب خصوصاً، لأني خائف على وجودي وحضوري لنفس الأسباب. ولكني أتناول كل الأدوية الحوارية المضادة للرهاب والإسلاموفوبيا... ولكني استرعي انتباه الجميع الى ان الخطر المحتمل على المسيحيين الآن وهنا، قد تحقق بتمامه وكماله في فلسطين عموماً... وفي القدس إحدى عواصم الروح الإسلامية وعاصمة الروح الوحيدة في المسيحية... ولا أدري. كيف تبقى عاصمة من دون أهلها، مسيحيين ومسلمين يتناقصون بتوال هندسي، وفي الوسط المسيحي أكثر، والأرقام معروفة... ولا أريد أن أطيل، أحيل الى «وقفة حق» أي الوثيقة المسيحية الفلسطينية الرائعة والفاجعة التي صدرت قبل ثلاث سنوات... والى الرسائل التي أرسلت لقداسة البابا في الصحافة أثناء زيارته الى لبنان مذكرة بالقدس، في جريدة «السفير»، وأكثرها من مسيحيين... وإن كان لا ينساها ويردد في صلاته «لتنسني يميني إن نسيتك».. ولكن القدس لم تكن ولا حتى محوراً ثانوياً في الإرشاد.. وكانت هناك فقرات أدب روحي حول الشرق والأرض المقدسة، لا ترقى الى مستوى موقع القدس كناظم لاجتماعنا الديني من دون الافتئات على الشعب الفلسطيني في كونها من حقوقه، أو أهم حقوقه وانتظاراته، وان تديينها يسهل أسرلتها... ولكنها مكان الروح الجامعة وفضاء التوحيد الإبراهيمي الجامع الذي جدد تشغيله الفاتيكان الثاني ومجده الإرشاد الرسولي للبنان وبنى عليه الإرشاد الأخير.
9- أذكر بأن الحدث المؤسس للذاكرة المسيحية المتصلة بالقـدس هو السـيد المسيح... بموته وقيامته على رأيكم وبارتفاعه أي قيامته حياً الى السماء، على رأي المسلمين، وهذا ما تسمونه «بالسر الفصحي».
والقـدس هي المـركز الـذي تجد فيـه رسـالة السـيد المسيـح تمام معنـاها. وفي الأناجـيل مـساحة القدس واسعـة، وفي لوقا أوسـع، فهـو يقـدم الإنجـيل على أنه صعود تدريجـي الى القـدس التي كان ساطعاً ولع المسيح بها وغيرته عليها. «كم من مرة أردت أن أجمع أبناءك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا» (لوقا ومتى)...
هذا كلام لا يضمر رغبة مرتجلة في إنهاء مأساة فلسطين والقدس بمأساة يهودية، بل بتأسيس الدولة الوطنية الفلسطينية الى جانب الدولة العبرية، أو بناء الدولة الواحدة، مع موافقة إجماعية ونهائية موثقة دولياً على أرجحية حصـة اليهـود فيها على حصة العرب والى الأبد... تماثل وثيقة يفترض أن يوقعها المسلمون في لبنان للمسيحيين تنص على نهائية المناصفة، على طريق المواطنة ودولة الأفراد لا الطوائف، تجنباً للعمل بالقانون الطائفي المسمى «أرثوذكسي» بلا غبطة ولا حسد، والذي قد يقودنا الى المثالثة عبر الأكثرية العددية... أي نهاية لبنان الرسالة... كما قالت رؤية البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، وكأنه كان يحدد للبنان دوراً حضارياً ممكناً وملحاً، ولكنه... ولكننا خابت آمالنا، لأنهم يمزقون الرسالة الى فتافيت مذهبية بمبادرة أرثوذكسية خالية من الإيقاع البيزنطي الجميل.
10- لقد جاءت استـقالة البابا عـلى موجـب اتساع المسافة بين العلمي والروحي وبين السياسي اليومي وقداسته عالِمٌ أولاً... بل وأخيراً، ولذلك استقال. وفي معلوماتي التي تحـتاج الى تدقـيق، وإن كـان مضـمونها متـوقعاً دائماً وخاصـة الآن، أمام الهياج الديني والمذهبي... في معلوماتي أن التقدم في السن مع الحرص على أن لا يكون الأداء مضطـرباً أو ناقصـاً، كانا من أسباب استـقالة الـبابا بملء ارادته. ولكن السبب الأعمق هو خـوفه من الحـالة التي تمر بـها الأديان، كل الأديان، وخاصة التوحيدية (أي المسيحية والإسلام واليهودية)... وأهلها وعلى مسـتوى مذاهبهم المتعددة كذلك، من تظهير وتعميق العـداء في ما بينها، بما يغطي (دينياً) عدوانات حصلت ومرشحة للتفاقم مستقبلاً، وهو غير مطمئن الى الطرائق السائدة في المبالغة في التدين على حساب الدين، والمبالغة في الدين، على حساب الإيمان والإنسان... هذا كلام سمعته أو قلته في أوساط علمية اسلامية مهمومة بالسلام والمعرفة من دون أن يكون الرجاء أقوى من اليأس.