لم يكن ظهور "سرية العباس" في الضاحية الجنوبية حدثاً إستثنائياً في تجربة حزب الله في البيئة الشيعية التي ينتمي اليها ويقودها، كما لم يكن تكليف مجموعة من أفراده بمهمة أمنية داخلية حدثاً فريداً . قد تكون مكافحة المخدرات إضافة نوعية الى تلك المهام، التي لطالما زعم الحزب أنه يأبى التورط بها، لكن الاهم هو ان البيئة نفسها  تعبر الان عن نزوع جديد نحو التمرد على آخر أشكال السلطة وأقربها إليها. المقارنة البسيطة بين هذه المهمة الامنية -الاجتماعية الجديدة التي بادر الحزب اليها وبين بقية المهام الداخلية التي قام بها منذ تأسيسه الاول في مطلع ثمانينات القرن الماضي، تبدد جانباً من الخلاف المحلي الدائم حول تجربته العسكرية والسياسية، بل لعلها تشجع الرجاء الهامس داخل الوسط الشيعي بأن ينكفىء الحزب عن عملياته الخارجية على إختلافها، ويتحول الى حزب متواضع في برامجه التي تهتم أولا ببيئته المثقلة بالهموم والتحديات.

ثمة من يذكر ان الحزب كان في بداياته مركزاً لنشر الفضيلة ومحاربة الفساد. صحيح  ان تلك البداية التعبوية كانت عابرة في تاريخه، وقد ترافقت مع حملة ضارية على رذائل اليسار  وفسقه، انتهت بالتصفية الجسدية، وكانت أحد مبررات القضاء على تلك الحالة السياسية، ووراثتها، وتطوير المقاومة وتحويلها الى جيش رديف مسلح بالصواريخ البعيدة المدى التي لم تملك مثلها منظمة التحرير الفلسطينية. الصراع مع العدو الاسرائيلي ومع بقية الاعداء الخارجيين أفقد الحزب إهتمامه بالامن الاجتماعي لبيئته، خصوصاً بعدما رفع شعار الزهد في السلطة. والاخطر من ذلك ان تجربته راكمت لدى تلك البيئة ولدى الشيعة عموما إحساساً بالقوة والتفوق، مصدره خطاب الحزب نفسه الذي كان يعتبر انه طرف في صد ودحر حلف شمال الاطلسي كله، وليس فقط في هزيمة اسرائيل وإجبارها على الانسحاب من لبنان من دون قيد أو شرط بل في وضعه الدولة اليهودية على شفير التفكك والزوال.

الان ، يقال ان التورط في الحرب السورية كشفت للحزب حدود قوته العسكرية والامنية حيث يبدو كفرقة صغيرة في مواجهة كبرى، يخوض إشتباكات على حدود تماس شبيهة بالخطوط التي فاتته في الحرب الاهلية اللبنانية، مع ما يعنيه ذلك من اتفاقات لوقف النار او لتبادل الاسرى والمخطوفين او حتى لتبادل السكان والمهجرين ، وسواها من موبقات أي حرب أهلية.  لكن هذا الاستنتاج لم يصل الى بيئته التي لا تزال تشعر بانها حصن الشرق المنيع وقلعة البحر المتوسط المصونة، التي لا يصح ولا يمكن ان تسلم للامن الوطني اللبناني ولا لمؤسساته ولا لأجهزته، ولا طبعا لمتطلباته.

هكذا ترجمت البيئة الشيعية خطاب "حزب الله" المقاوم في الداخل اللبناني، فلم تعد تذعن لسلطة الجيش او الامن او القضاء ولم تعد تحترم قواعد الاجتماع اللبناني وحساسياته الطائفية والمذهبية المعروفة، حتى باتت الغالبية الساحقة من الخارجين عن القانون والنظام العام شيعية بلا منازع، على الرغم مما لدى الطوائف الاخرى من أسباب ومظاهر للخروج على النظام.

ظاهرة المخدرات، ليست حكرا على الشيعة، وانتشارها في اوساطهم ليس جديداً طبعاً ، لكنها كانت غالباً على مبعدة من مناطق سيطرة الحزب . تفاقم الظاهرة في الضاحية الجنوبية بالذات هي نوع من التحدي الاستثنائي للحزب وهيبته أكثر من كونها طعناً لخطابه، لا سيما في ظل الانباء عن تورط الحزب نفسه، كأي حزب مقاتل أو كأي دولة في حالة حرب، في تجارة المخدرات وترويجها في مجتمعات العدو ووراء خطوطه الخلفية..

أما الجدل حول حلول الحزب محل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها في مكافحة هذه الظاهرة ، فهو من نوع الترف السياسي الذي لم يحن وقته بعد، لا مع الحزب ولا مع خصومه الذين يغيب عنهم ان مثل هذا التحدي، هو أحد مخارج الازمة الوطنية لا أحد عناصرها.