حتى الآن، ثبُت أن حلفاء أميركا وشركاء رئيسها دونالد ترامب، هم أشد المتضررين من سلوكه الأخرق وسياسته الحمقاء، ومن لغته المدمنة على الأكاذيب.

الأزمة الراهنة مع إيران لن تكون إستثناء لتلك القاعدة. وما قصة ال150 إيرانياً الذين حفظ ترامب أرواحهم عندما أحجم في اللحظة الاخيرة عن توجيه ضربة عسكرية الى إيران، سوى دليل على أن ذلك الرجل لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد أبداً... إلا إذا كان جزءاً من عملية خداع تنفذها المؤسسة الاميركية، وتستخدم فيها الرئيس ولسانه المتفلت وتغريداته المثيرة للسخرية.


خلف تلك القصة، التي تلقفها كثيرون وصدقوها بإعتبارها برهاناً جديداً على إنسانية ترامب وأخلاقه العالية، سُجلت وقائع ومواقف حاسمة في إلغاء أو تأجيل الضربة الاميركية الى إيران، أولها ان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، وعندما علم بالنية الاميركية للانتقام من عملية إسقاط طائرة التجسس الاميركية، تدخل مباشرة مع الرئيس الاميركي طالباً منه بإلحاح شديد وقف تنفيذ تلك الخطوة الموضعية، طالما أنها ليست جزءاً من خطة حرب شاملة على إيران، ولأنها يمكن ان تجر الى سلسلة من ردات الفعل الخطرة أو المكلفة على إسرائيل وعلى بقية الحلفاء في الخليج العربي.


لكن الاهم من ذلك التدخل الاسرائيلي ان غالبية اعضاء مجلس الامن القومي الاميركي، لا سيما العسكريين منهم، وكذلك غالبية أعضاء الكونغرس بمن فيهم الجمهوريون، عارضوا أيضا توجيه تلك الضربة، لان الثأر ليس من شيم الدول، ولأن الإشتباك الاميركي الايراني المباشر هو غاية طهران وأمنيتها وربما مخرجها من الازمة الخانقة التي تهدد أمنها وإستقرارها الداخلي وربما مستقبل نظامها السياسي. وذكر القادة العسكريون الاميركيون، أن الضربة التي تلقتها أميركا باسقاط واحدة من أهم طائراتها الاستطلاعية، كانت موجعة، لكن تدمير مراكز الرادار ومرابض الصواريخ الايرانية التي أسقطتها ، ليس رادعاً كافياً، بل ثمة ردود عسكرية وأمنية وحتى إقتصادية قد تكون أشد إيلاماً لإيران.


عند هذا الحد توقف النقاش في واشنطن وألغيت الضربة، التي لا يزال بعض أعضاء الكونغرس يشككون في أنها كانت بالفعل خياراً مطروحاً على طاولة مجلس الامن القومي، ولم تكن مجرد تعبير مفرط عن الغضب الاميركي الشديد. وعندها أيضا، فُتحت مسألة الاجراءات الوقائية، والحاجة الى تفادي مثل هذا الخطأ الفادح الذي ارتكبته القيادة العسكرية عندما أرسلت طائرة التجسس المتطورة من دون حماية كافية  للتحليق في أجواء منطقة تغطيها الصواريخ الايرانية-الروسية، من طراز أس 300. كما بدأت الخطوات العملية لتعزيز القوات الاميركية في المنطقة كلها وتزويدها بوسائل إضافية للدفاع عن نفسها أولا، ولإمتلاك القدرة على خوض عمليات وشن غارات جوية وصاروخية، أوسع وأقسى من تلك المتاحة حالياً.


هكذا انتهى النقاش في واشنطن، ودارت على هوامشه أسئلة جوهرية، أهمها ان خواتيم الازمة أنهت أسطورة الحلف الاميركي السعودي الاماراتي الذي كان يعتقد أنه يوجه السياسة الاميركية نحو الحرب مع إيران، ويتمنى أوعلى الاقل يظن أن ذلك المشهد الذي تحفظه الذاكرة عن جحيم بغداد في العشرين من آذار مارس العام 2003 يمكن ان يتكرر مع طهران.. بل أن بعض رموز هذا الحلف حدد أكثر من مرة ساعة الصفر لبدء الغارات الجوية والصاروخية المدمرة على العاصمة الايرانية، قبل ان يكتشف أن الاميركيين لا يقيمون وزناً لحلفائهم العرب، إلا في شأن واحد فقط هو صفقة القرن التي يفترض أن تحقق حلم ترامب ونتنياهو بتصفية القضية الفلسطينية وتغيير جوهر التعاطي مع الشعب الفلسطيني.


لم تكن أميركا، تخادع أحداً من هؤلاء الحلفاء، لكنهم كانوا هم جاهزين للإنخداع. الازمة الراهنة لم تنته، لكنه ليس لها سوى نهاية واحدة، بسيطة، مرضية لأميركا وغير محرجة لإيران: وثيقة رسمية موقعة من المرشد الايراني علي خامنئي تؤكد عدم رغبة بلاده في إنتاج قنبلة نووية، يليها لقاء مباشر بين ترامب ونظيره الايراني حسن روحاني في بلد محايد، للاتفاق على فك الحصار، وفتح السفارات والاستثمارات وخطوط التجارة والتعاون. ولن يكون بامكان أي حليف عربي لواشنطن إلا أن يذعن، ويسلم بأن تدمير طهران لم يكن سوى حلم ليلة صيف رطبة.


وحتى ذلك الحين، لن يزول التوتر الاميركي الايراني، بل قد يتجسد في إشتباكات ومناوشات متكررة، في مياه الخليج وفي بقية الجبهات، تحبس الانفاس، وتمهد لتلك النهاية السعيدة.