تحت عنوان أبرز أسرار معركة شرق دمشق كتب ناصر شرارة في صحيفة الجمهورية: خلال العام 2013 ردّد روبرت فورد، الذي كان مكلّفاً بملف المعارضة السورية في إدارة الرئيس السابق باراك اوباما، أنّ المعارضة المسلحة في حي جوبر تقف على بعد 300 متر من ساحة العباسيين في دمشق. كان فورد يؤشّر الى انّ الرئيس بشار الأسد بين خيارين: إمّا الذهاب متواضعاً الى مفاوضات سلام دولية، وإمّا أن تطرق جبهة النصرة باب غرفة نومه، على حدّ قوله آنذاك.بين عامي 2013 و2017 سالت دماء كثيرة داخل أوعية المعادلة الامنية والسياسية في سوريا، كان أبرزها التدخل العسكري الروسي الذي يعتبر دمشق خطاً أحمر، اضافة الى معركة حلب وذهاب المعارضة المسلحة متواضعة الى مفاوضات أستانا.
 

اليوم، تذهب المعارضة المسلحة الى فتح معركة دمشق انطلاقاً من حي جوبر ومن نحو 10 محاور شرق العاصمة تابعة لها، من باب رغبتها في إنجاز "تعديل رمزي" لمصلحتها داخل المعادلة العسكرية ومن ثم السياسية مع النظام.

وحتى داخل أجواء المعارضة لم يعد وارداً إسقاط الأسد من خلال السيطرة على دمشق، كلّ المطلوب إيصال رسائل سياسية تخدم فكرة انّ المعارضة تستطيع ان تفاوض، وتصمد عند بعض ثوابتها، ولَو جَرت هذه المفاوضات تحت سقف استمرار إطلاق النار.

"الجمهورية" حصلت على بعض الاسرار الخاصة بما تطلق عليه المعارضة معركة «واثبتوا» في شرق دمشق، وهي تسلّط الضوء على خلفيات سياسية وعسكرية متصلة بها:

ـ أولاً، خطة معركة "اثبتوا" في شرق دمشق وضعتها المعارضة منذ 3 أشهر، وكان يفترض ان تنفّذ بعد سقوط مدينة حلب، بهدف إحراز ردّ اعتبار معنوي لفصائل المعارضة وقواعدها الاجتماعية، عبر إنشاء ميزان قوى رمزي يظهر انه في مقابل إخراجها من حلب عادت المعارضة لتطرق باب دمشق... وراهنت على انّ هذه الخطوة ستُفرمِل الى حد معيّن قدرة النظام وموسكو على الاستثمار في نتائج نصرهما في حلب سياسياً وعسكرياً، وستوقف الانهيار العسكري والسياسي للمعارضة.

لكنّ عملية شرق دمشق، تمّ إرجاؤها حينها بفعل حوادث اقتتال بين فصائل معارضة حصلت آنذاك في ريف حماه. ثم أُعيد طرح فكرة تنفيذها، وكان مقرراً البدء بها قبل ثلاثة أسابيع من الآن، ولكنها أرجئت مرة ثانية لأنّ معلومات في شأنها تسرّبت الى الأمن السوري.

من وجهة نظر المعارضة فإنّ العملية لها أهداف رمزية عسكرية وسياسية، وفي مقدمها القول عسكرياً انّ النظام غير قادر على حماية العاصمة، وانّ الفصائل المسلحة لا تزال تملك زمام المبادرة العسكرية في الميدان السوري، وسياسياً القول إنّ المعارضة تستطيع تجاوز أزمة محنة فقدانها التوازن العسكري مع النظام، لمصلحة إبراز معادلة تفيد أنها تملك الى جانب "خيار التفاوض بلا شروط مسبقة"، المفروض عليها من روسيا ودمشق بعد هزيمتها في حلب، خياراً آخر وهو "التفاوض المسلّح".

ـ ثانياً، تدرك المعارضة أنّ أُفق معركة دمشق، انطلاقاً من بوّابتها الشرقية، ليس لديه أفق استراتيجي لا عسكرياً ولا سياسياً، وكل الاهداف الممكنة هي تكتيكية كبيرة. بداية، تستطيع المعارضة المسلحة الاحتفاظ بميدان شغب وإقلاق لأمن العاصمة، وتحديداً للأحياء القريبة من جوبر ومنها "القُصَاع" و"باب توما" و"العباسيين".

ولكن في المقابل يستطيع النظام جَعل معركة "كاراجي العباسيين" بمثابة جرح استنزافي بشري للمهاجمين ضمن حملة "واثبتوا". فهذه المنطقة التي أدّت دور خط تماس مشتعل بين جوبر ومواقع النظام قبالتها طوال أربع سنوات ماضية، تحوّلت منطقة دشم طبيعية مكوّنة من انهيارات الابنية فيها.

خلال هجوم المعارضة الاخير المباغِت عليها، استهدفت حامياتها السورية بثلاث عربات مفخخة، تبع ذلك اقتحام الانغماسيين لها، ثم وحدات الاقتحام، ما حقّق عنصر المفاجأة وأدى الى سقوط خسائر بشرية من الجيش السوري. ولكنّ الجيش عاوَد اقتحامها وطرد المسلحين منها.

ومنذ تلك اللحظة استَجدّ منطق إدارة عسكرية جديدة لهذه المنطقة، حيث الجيش ينسحب منها عندما يهاجمها المسلحون بالمفخخات الانتحارية، ومن ثم يعود الى طردهم منها مستعملاً غطاء جوياً كثيفاً. إستراتيجية الجيش السوري هي ترك المسلحين يدخلون اليها المرة تلو الأخرى، وذلك ضمن معادلة انّ كل هجمة جديدة تكلّف المعارضين خسائر أكثر عبر القصف الجوي، وتكلّف الجيش السوري خسائر أقل عبر التصدي لهم.

وعلى هذا، فإنّ المعارك في كاراجي العباسيين أصبحت رمزية للمعارضة ونقطة جذب واصطياد للموارد البشرية لمسلحي الغوطة الشرقية، وتحديداً جوبر.

ولكن أبعد منها، فإنّ معركة شرق دمشق بدأت تتفاعل بعد مضي 48 ساعة على اندلاعها، ضمن استراتيجيتين، إحداهما تخصّ المعارضة والثانية تخصّ الدولة السورية ومعها موسكو:

ـ الإستراتيجية الاولى تقع في انّ المعارضة كانت أمام خيارين: امّا فتح معركة الغوطة الشرقية تحت تسمية "معركة شرق العاصمة"، وامّا القبول بأن يصل الى الغوطة الشرقية (وضمنها دوما) مسلسل ما حصل في الغوطة الغربية من مصالحات سبقتها حصارات وضغوط عسكرية أدّت الى إخراج المسلحين منها.

في اختصار، إنّ معركة شرق دمشق تؤخّر، أقله هذا المسار، وتطيل عمر بقاء الغوطة الشرقية في يد مسلحيها، وذلك من طريق أن يحاكي المعارضون فيها لعبة الاكراد في مناطقهم شمال سوريا، حيث نسجوا تحت القتال وقلب المعادلات الى وقت معيّن، سلسلة ضمانات ضد تركيا، مع الاميركيين والروس، وايضاً مع النظام في وقت واحد، ساعدتهم على البقاء في مناطقهم.

ويحاول مسلّحو الغوطة الشرقية إيصال القتال في شرق دمشق، الى فتح بازار لمصحالهم يكرّر تجربة الكرد مع تركيا، مع فارق انّ النظام في الغوطة الشرقية هو من يريد مسلحوها ضماناً في وجهه.

ـ إستراتيجية الدولة السورية تحاول أخذ الغوطة الشرقية الى مناخ عسكري وسياسي يشبه المناخ الذي سادَ حلب وأدى الى تجريد حملة لتحريرها بمساندة روسيا، تحت عنوان إخراج "النصرة" منها.

توجد أوراق في يد دمشق لتغليب استراتيجيتها في الغوطة الشرقية، أبرزها ما اتّضَح للروس من انّ الكتلة القتالية الأبرز المشاركة في معركة شرق دمشق، هي من "جيش الاسلام" المشارك في اجتماعات أستانا الى جانب فصائل أُخرى صَنّفها الروس بأنها معتدلة، ولكنّ الكتلة الصلبة للانغماسيين والانتحاريين الاقتحاميين هي من "النصرة".

وهذا المشهد يجعل الروس يستعيدون، في نظرتهم الى الغوطة الشرقية، بدايات مشهد "حلب أخرى". التقديرات تفيد أنّ معارك الكر والفر قد تستغرق من أسابيع الى ثلاثة اشهر قبل أن تبدأ معركة "حلب جديدة" في الغوطة الشرقية لتؤدي الى نتائج متشابهة.