يعود سبب استمرار اللجنة الرباعية في الدوران ضمن حلقة مفرغة الى أنها تتجاهل طرح السؤال الأساس الذي يجب أن تبدأ منه ورشة إنتاج القانون العتيد، وهو عن هدفه السياسي وليس عن غاياته التسووية، وتحديداً الإجابة عن سؤال عمّا إذا كان المطلوب تصحيح تمثيل الأقليات الدينية في دوائر اللون المذهبي الطاغي، أم تصحيح عدالة تمثيل كل الاقليات السياسية اللبنانية على مستوى كل الدوائر وكل لبنان؟.
 

قانون باسيل يضمر هدف تصحيح تمثيل الاقليات الدينية توصّلاً الى تصحيح التمثيل المسيحي، واسترداد عشرة مقاعد مسيحية كان انتخابها أيام حقبة السوريين رهناً بإرادة التصويت الاسلامي. وعليه، أحال مقاعد الاقليات الدينية في الاقضية ذات اللون الغالب الى طائفة واحدة، الى النسبية، بينما ترك الأكثري لتمثيل المحادل الانتخابية في أقضيتها.

وحسب معلومات فإنّ باسيل عدّل المشروع الذي يطرحه الآن، لأنّ أصله كما وصل اليه كان يتضمن آليّات تخدم هدف تمثيل الاقليات السياسية وليس الدينية. لكنّ باسيل عَكَس هدفه، ومن ثم عدّل في آليّاته، على نحو غيّر مضمونه من وجهة نظر مُعِدّيه.

ماذا بعد تقلّص حظوظ قانون باسيل؟

الإجابة أبعد من سؤال أيّ قانون سيَرثه: مختلط تأهيلي، أم عودة الى الستين معدلاً؟ إنّ الاستنتاج الأساس بعد تقلّص حظوظ قانون باسيل، يكمن في انّ تجربة تصحيح التمثيل المسيحي كما طرحها نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي عبر القانون الارثوذكسي، ومن ثم قانون باسيل الراهن، تواجه استعصاء على مستوى تطبيقها أو تجسيدها بقانون انتخابي واضح وذي معايير مقبولة وطنياً وسياسياً.

وأوّل ما يعنيه هذا الامر، هو انّ الواقع الديموغرافي الذي ينتج «سرقة» الناخب المسلم للمقاعد المسيحية العشرة وفي مقابلها «سرقة» الناخب المسيحي مقاعد إسلامية أقل، أصبح أمراً فرزَه تطوّر معادلة الديموغرافيا اللبنانية وحركة تفاعلاتها، وليس تعبيراً عن اغتصاب سياسي إسلامي لمقاعد مسيحية، أو العكس.

وبالتالي، فإنّ عملية تبادل مقاعد «مسروقة» بين المسلمين والمسيحيين لن تفضي الى حلّ مسألة تصحيح التمثيل المسيحي النيابي، بل ستعقّد سلاسة مُجمل عملية التمثيل السياسي اللبناني، وتجعل آليات قانونه غير مفهومة وتترك فرصة للترَحّم على منطقية قانون الستين الظالم.

والحلّ المُتاح والمُتجاهَل، يكمن في التقدم الى الامام عبر اعتماد النسبية الكاملة في كل لبنان، او على مستوى المحافظة، ليتمّ تصحيح التمثيل المسيحي من ضمن سلة تصحيح كل التمثيل السياسي في لبنان، وذلك على أساس الناخب المواطن ومجلس نواب المناصفة.

أبرز ما يجب ان تؤدي اليه تجربة باسيل وقبله الفرزلي، هو إيصال رسالة الى المسيحيين بأنّ العودة الى الوراء لمداواة قضية تصحيح التمثيل المسيحي عبر تسوية بين محادل الأكثري المذهبية من جهة، وبين النسبية لعشرة مقاعد مسيحية ومعها مقاعد أقليّات الأقضية من جهة ثانية، لن يُفضي الى حلّ بل سيُدخِل البلد في أزمة انّ بديل الستين غير النسبي هو أسوأ منه، لأنّ آليّات قانونه الانتخابي متضاربة المعايير، وتؤدي الى ولادة برلمان بنواب هَجيني الهوية التمثيلية، فبعضهم نوّاب محادل اللون الواحد، وبعضهم نواب البؤر الأقلوية الدينية، وبعضهم خليط من فتات النسبية.

مسعى «مختلط باسيل» لتصحيح تمثيل الاقليات الدينية وليس السياسية، يُضمر نوعاً من إنكار تغيّرات بنيوية طاوَلت الواقعَين الديموغرافي والسياسي في لبنان والمنطقة، وإدارة الظهر لمعالجتها بإجراءات تناسب ما تغيّر وتبدّل. هذه النصحية حملها الى مسيحيي لبنان بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وفد أرسلته الأمم المتحدة الى لبنان لتفَحّص مستقبله السياسي بعد زلزال شباط 2005.

وبعد درسه الوقائع والارقام والتوقعات الديموغرافية والسياسية في لبنان والمنطقة، والاجتماع مع خبراء، إستنتج الوفد واثقاً انّ مسيحيي لبنان لم تعد لهم مصلحة في استمرار نظام المحاصصة الطائفية، بل انّ استمراره على المَديَين المتوسط والبعيد يشكّل تهديداً لهم، لذا عليهم الخروج منه، والعمل لمصلحة قيام نظام في لبنان يكون التمثيل السياسي فيه على أساس المواطنة والمعايير العلمانية وليس الدينية والطائفية.

رأى الوفد انّ الديموغرافيا وتحوّلاتها المرتقبة ستجعل مسيحيي لبنان أقلية عددية، وانّ التحولات السياسية ونزاعاتها ستجعل قضية حلّ النزاع بين الشيعة والسنة، وليس حلّ مشكلة الأقليات في المشرق، مرشد الغرب لبناء الاستقرار فيه.

بمعنى آخر انّ مسار التحول الديموغرافي المتواكِب مع تطور تبدّل هوية النزاع السياسي في المنطقة، سيجعل المسيحين معنيين بتغيّر أسلوب دفاعهم عن وجودهم، والانتقال من ملجأ نظام المحاصصة الطائفية الى ملجأ نظام المواطنة.

رفض معظم الزعماء المسيحيين، الذين التقاهم الوفد آنذاك، الإقرار بصوابية هذه التوصية ـ النصيحة، وأصرّوا على انّ بقاءهم في نظام المحاصصة هو ضمان المسيحيين الأفضل، والمطلوب البناء عليه من ضمن هذا النظام وليس من خلال اعتناق نظام جديد.

بعد عشرة اعوام على نصيحة وفد الامم المتحدة، يواجه عهد الرئيس المسيحي القوي معضلة عدم سهولة استرداد مجرّد عشرة مقاعد مسيحية من بين ظهراني ديموغرافيا التصويت الإسلامية، ويجد انها مهمة تبدو أكثر من صعبة موضوعياً وليس بالضرورة بسبب اعتراضات إسلامية، نظراً لأنها تنتج تعقيدات تؤدي الى جعل كل عملية التمثيل السياسي في لبنان محلّ تعثّر وعدم انسجام.

وهذه الواقعة يمكن ان تمثّل رسالة للمسيحيين فيما لو تذكّروا، في مناسبتها، مضمون نصيحة وفد الأمم المتحدة الذي لفَتَهم الى انّ التاريخ لا يعود الى الوراء، وانّ إنتاج الدور المسيحي الجديد بحاجة الى تفكير جديد، وانّ بقاءهم عند المحاصصة داخل نظام لبنان يؤدي مع الوقت الى خروجهم من الديموغرافيا وتآكل متصاعِد لدورهم السياسي في داخله.