لم يثر تقرير «الشفافية الدولية» السنوي حول الفساد في العالم ردود فعل تُذكر في لبنان الذي احتل المرتبة 136 من أصل 176 بلداً ومنطقة شملها التقرير. الرأي العام اللبناني مشغول هذه الأيام بمتابعة ما يصح عرضه على شاشات التلفزة وما لا يصح، حرصاً على الأخلاق العامة وخشية عليها من الخدش والجرح.
إذاً، ما من شيء مفاجئ أو يستحق التعليق في أن يحتل بلد فقير (على رغم كثرة أصحاب البلايين بين مواطنيه) مرتبة شديدة الانخفاض بين الدول التي ضربها الفساد، و»أثّر تأثيراً ملموساً في الحياة اليومية لمواطنيها» وفق التقرير. بكلمات ثانية، يساهم الفساد في لبنان وفي البلدان المشابهة له من ناحية تفشي الرشى والتلاعب بالقوانين والتهرب من المساءلة وما شاكل من أبواب الفساد، في إبقاء مستوى الحياة متدنياً عند مئات الآلاف من المواطنين الذين يحرمهم التحالف السياسي – الطائفي الحاكم من حقوقهم في الحصول على تعليم ورعاية صحية وضمانات اجتماعية أفضل، وصولاً إلى إلغاء حقهم في تقرير مستقبلهم من طريق التلاعب بالعملية السياسية ونتائج الانتخابات.
وللصدفة، تزامن صدور تقرير «الشفافية الدولية» مع تصاعد الجدل حول قانون الانتخابات الواجب اعتماده في الدورة المقبلة لاختيار مجلس نيابي، المقررة في وقت لاحق هذا العام. هنا أيضاً يغيب النقاش العام، بمعنى وجود رأي عام واع لمصالحه يقف إلى جانب صيغة قانونية معينة، سواء كانت نسبية أو أكثرية، ضمن دوائر واسعة أو مصغرة، على أساس القيد الطائفي أو خارجه، على أن تشرك أكبر عدد ممكن من اللبنانيين في العملية السياسية وفي رسم الخطوط العامة لمستقبلهم. النقاشات في وسائل الإعلام وعبر تغريدات موقع «تويتر»، تبدو محصورة في المجموعة ذاتها من السياسيين المستفيدين من الفساد الهائل في القطاع العام والمدافعين عنه.
ولا يبدو قفزاً فوق الوقائع القول إن الفاسدين المعروفين – المجهولين، سيقررون أي قانون انتخابي سيدلي مواطنوهم الغافلون بأصواتهم وفقاً له، ليعودوا هم أنفسهم أو ذرّيتهم التي لا تقل فساداً وطائفية إلى التحكم بمصير هذا البلد المنكوب. مرة ثالثة، لا يبدو أن ثمة أصوات اعتراض جدية أو ذات وزن ترفض هذا الواقع الكالح السواد.
مناسبات عدة مثلت للبنانيين فرصاً لإبداء رأي مختلف عن آراء المجموعة السياسية المسيطرة. ليس أولها أزمة النفايات المستمرة منذ 2015 ولا آخرها تقاسم أماكن التنقيب عن النفط والغاز في المياه اللبنانية، بين شركات وهمية تراعي عمولات زعماء الطوائف والميليشيات، قبل أن تغذي المالية العامة. مناسبات لم تحرك «الشارع» على رغم أنها ساهمت في بقاء لبنان من أكثر الدول فساداً وفق المعايير الدولية.
مزيج من العصبية والولاء والخوف من الآخر والتهويل بالحرب وبالسلاح وغياب الفاعل السياسي البديل وتواطؤ وسائل الإعلام، يعمل بنشاط على إحباط أي محاولة ولو شكلية للاعتراض على الواقع، ليس من أجل «إسقاط النظام» على ما قال الشبان العرب قبل سنوات قليلة تبدو اليوم وكأنها تبعد عنا آلاف الأعوام، بل من أجل إيجاد رابط بين المعاناة الاجتماعية والاقتصادية المتصاعدة عند عدد متزايد من اللبنانيين، وبين تعبير سياسي معقول عن المعاناة هذه.
هذه البداهة تبدو بعيدة من مطالب جزء كبير من اللبنانيين الذين استسلموا لأمراضهم على أمل الشفاء الفردي من وباء عام.