في أواخر التسعينات عندما كنت متواجدًا في مدينة قم الإيرانية لطلب العلوم الدينية، حدثت قضية عجيبة لا أظن تكرارها مع شيعة لبنان بالأمر البعيد .

فجأة ومن دون مقدمات، تخذت وزارة الداخلية الإيرانية قرارًا بإخراج العوائل العراقية من بيوتها التي تسكنها "بالأجرة" في المدن الإيرانية وإسكانهم في مخيمات أقيمت لهم "في الصحراء" !!

ثارت ثائرة العراقيين، وتوجهوا للقوى العراقية المتواجدة في إيران وقتها وعلى رأسهم قائد فيلق بدر المرحوم السيد محمد باقر الحكيم وطالبوه بضرورة معالجة الأمر سريعًا، فهذه العوائل لا تستحق هذه المعاملة "اللئيمة" بعد كل ما قدمته ﻹيران من مساندة ضد صدام حسين ونظامه المجرم أثناء الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات !!

تحدث المرحوم السيد محمد باقر الحكيم مع السيد علي الخامنئي حول خطورة ما يتعرض له العراقيون في إيران، إلا أنه لم يحصل على أي نتيجة، فالسيد الخامنئي "ليس مبسوط اليد" كما يتوهم البعض . فاقتحمت الشرطة الإيرانية البيوت وأخرجت العوائل العراقية عنوة ورمتها في مخيمات أقيمت لها "في الصحاري" خارج المدن !!

كانت حجة الحكومة الإيرانية وقتها أن العراقيين -الذين هربوا من بطش نظام صدام حسين وقاتلوا مع القوات الإيرانية ضد جيش بلادهم حتى سقط منهم آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى؛ منهم يعمل في المهن الحرة ويفتح دكاكين لهم ليعتاشوا منها ويطعموا عوائلهم المشردة من العراق، كمهنة التنجيد والنجارة والسمكرية وطلاء المنازل وما شابه من مهن بسيطة، وهذا الأمر يخرب على اليد العاملة الإيرانية ويأخذ فرص العمل هذه من أمامها !!

ثماني سنوات وعشرات الآلاف من العراقيين يقاتلون إلى جانب القوات الإيرانية ضد جيش بلدهم العراق، إيمانًا منهم أن النظام الإسلامي في إيران أولى بالنصرة من نظام صدام حسين وجيشه، حتى دفع شيعة العراق ثمنًا باهظًا في الداخل العراقي أو على الجبهة التي قاتلوا فيها إلى جانب القوات الإيرانية ضد الجيش العراقي بعدما هربوا إلى إيران من العراق أو انشقوا عن جيش صدام والتحقوا بالقوات الإيرانية أثناء المعارك الطاحنة التي دارت لثماني سنوات ودفعت عوائل المنشقين في داخل العراق حياتها ثمنًا لذلك !!

قبل مدة من هذه الفعلة الشنيعة للحكومة الإيرانية، صادف أن جمعتني رحلة سفر داخل إيران بأحد رجال الدين العراقيين، وصار يحدثني عن أوضاعه وما جرى في الحرب العراقية الإيرانية، ومما أخبرني به، أنه وإخوته الذكور؛ هم ستة أفراد، استشهد منهم أربعة أثناء قتالهم مع القوات الإيرانية ضد الجيش العراقي، وبقي هو وأخوه، وكلاهما جريحان في تلك الحرب !!

بعد عشر سنوات من نهاية الحرب العراقية الإيرانية، وبعدما لم تعد إيران تشعر بحاجة لهؤلاء وقتها، حيث لم يخطر ببالها أنها ستعود وتحتاجهم قريبًا في سنة 2003 عند الغزو الأمريكي للعراق، باستثناء فيلق بدر الذي كانت تحافظ عليه لأي طارئ في المستقبل ضد عراق صدام حسين. نسيت القيادة الإيرانية جميل بل جليل فعل هؤلاء العراقيين معها ضد جيش بلدهم ونظامه، فضاقت أعين هذه القيادة ببعض الدكاكين التي كان يعمل بها أرباب عوائل -فقيرة مهجرة من بلادها بسبب ولائها ﻹيران نفسها- ليطعموا عوائلهم، ورغم كل ما قدمته هذه العوائل من دماء لمصلحة إيران ضد بلدهم العراق نفسه !!

لا تذهب هذه الحادثة المهولة بحيثياتها الاجتماعية والعقائدية من بالي، وأتذكرها دائما عندما أفكر في مصير من ارتبطوا بإيران من اللبنانيين عندما تجد القيادة الإيرانية أن هؤلاء باتوا عبئًا عليها !!

أنا لا أقول موضوعا إنشائيًا، أنا أتحدث عن سياسة تعتمدها "الأمة الإيرانية" متمثلة بحكوماتها المتتالية تجاه كل ما هو غير إيراني، بعيدًا عن العواطف "المهترئة البالية" التي يشتهر بها شيعة لبنان في سياساتهم التي يعتمدونها ويتعاملون بها مع غيرهم، والتي عادة ما تنتهي بشكل مأساوي، حيث يعود نفس هؤلاء الشيعة ويقاتلون من كانوا "مهووسين" بولائهم لهم والتحالف معهم بعد أن تنقلب هذه الجهات عليهم . وما رش الأَرُز الشيعي اللبناني على الجيش الإسرائيلي عند اجتياحه للبنان لإخراجه الفلسطينيين من الجنوب -بعد أن كان الجنوبيون قد وقفوا حتى بوجه الجيش اللبناني في السبعينات عندما أراد ضرب الفلسطينيين- ببعيد !!