مع نهاية أسوأ عام في تاريخ سوريا الحديث: قتل واعتقال وتهجير وخراب عمراني، وعدوان خارجي واحتراب داخلي، يتمخّض هذا العام عن أعجوبة، وقف إطلاق نار بضمانة الروس والترك، ولعلّ من المفيد ذكر بعض العبر والدروس التي أملاها هكذا اتفاق.
 

الدرس الأول: الخيبات الجماعية
كل ما كُتب  وحُرّر، وما صدر من تحليلات ، وكل ما أُلقي من خطب، وما نفثتهُ الصدور من أحقادٍ وضغائن، وما أُريقت من دماءٍ زكية، وما تجرّعه الشعب السوري من آلامٍ فظيعة منذ خمس سنوات حتى اليوم، كل ذلك ذهب هباءً منثورا بعدما توافق الروس والأتراك على وقف النار في عموم الجبهات، وأذعنت له الفصائل المسلحة، مع استثناء المغضوب عليهم (داعش والنُّصرة)، وطأطأ النظامُ رأسه موافقاً بعد أن بات حاله كحال الخليفة العباسي الذي قال فيه الشاعر ذات يوم:
خليفةٌ في قفصٍ      ما بين وصيفٍ وبغا
يقول ما لُقّنهُ           كما يقول الببغا.

إقرأ أيضا : قتلُ السفير الروسي في تركيا، عمل إرهابي ومُدان


الدرس الثاني: تبادل أدوار..بين الأنظمة والإسلام المتطرف
الأنظمة الديكتاتورية الشمولية تتبادل الأدوار مع المنظمات الأصولية الإسلامية المتطرفة، وينهلان من منبع واحد، فتختلط الايديولوجيا البائسة بالتيولوجيا المنحطّة (نسبةً لعصر الانحطاط)، ويتضافران على قمع الشعوب المقهورة. والحرب لا تكون بالسيف فقط، وإنّما تكون أيضا بالفتاوى وسرد الأخبار وتدبيج الخطب بشتى أنواعها (سُنّية وشيعية). 
للأسف، تمخّض الربيع العربي عن إسلامٍ مُريع، ينتسب لأبشع صُور إسلام عصر الانحطاط، إسلام مُنقطع من جذوره الحيّة، إسلام تجريدي ومؤدلج ، مُشبع بخطابات الهيمنة  والسيطرة  ذات الجوهر الأيديولوجي، خطابات لا علاقة لها بالدين بالمعنى المتعالي والتنزيهي للكلمة، تُقدّم نفسها على أنّها خطابات دينية وإسلامية، عن طريق استخدام نُتف متفرقة ومبعثرة من المعجم الديني القديم، وما إن توهّمت امتلاكها أرضاً منزوعة من يد الأنظمة، وسُكّاناً آمنين، حتى راحت تبتدع عُنفاً لم تعرف البشرية أبشع من صُوره ودلالاته، وأنتجت هذه الفترة القصيرة من تبادل أدوار النظام والجماعات الأصولية انحلالاً مريعاً للقيم الثقافية العربية-الإسلامية.فيبررون ما كان قد ردّدهُ بعض المستشرقين بأنّ الإسلام بطبعه وجوهره مُعادٍ للحداثة والتطوير والتغيير،ومجبولٍ على العنف والعدوان، وهذا ما سيوقع الشعوب الإسلامية بين فكّي الغلاة الذين ينشرون الجهل والتخلُّف من جهة، وبين الغرب المتوجس والخائف من الإرهاب، حتى بات يعاني من الفوبيا الاسلاموية.

إقرأ أيضا : حكايتان من بغداد ..نوري المالكي وابنة هولاكو


الدرس الثالث:الدرس التاريخي المرير للسلطنة والاستعمار
لم يكن تاريخ السلطنة العثمانية حافلاً بالخير والامجاد على شعوب المنطقة العربية من مشرقها حتى مغربها، فقد خلّف وراءه الجهل والتخلُّف والبوار ، حتى وضعت الحرب العالمية الأولى نهاية لهذا الاحتلال المغلف بالعقيدة الإسلامية الملفّقة، والتي كانت تمنح السلطان العثماني شرعية حكمه للبلاد الإسلامية من اليمن شرقاً حتى المغرب الأقصى غرباً ما عدا إيران، أمّا الفراغ الذي نتج عن انهيار الإمبراطورية العثمانية، فقد ملأهُ الاستعمار الغربي، فقام بأعمال التجزئة وإنشاء الدول والممالك والإمارات وفقاً لمصالحه، وأتمّ الإنكليز فضائلهم على العرب بزرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين واقتلاع سكانها وتهجيرهم، ممّا تسبّب بمآسٍ ونكبات ما زالت تداعياتها تتصاعد يوماً بعد يوم.
وها نحن اليوم، عودٌ على بدء، السلطنة تتمدّد في سوريا، والاستعمار الروسي، يخلُف هذه المرّة الاستعمار الغربي، فيتمدّد بآلته الحربية فارضاً نفوذهُ وطغيانه، وما زالت المنطقة بانتظار الخرائط الجديدة، والتي تنتظر موافقة إيران بالطبع، خرائط لا يمكن لامهر العرّافين أن يتنبأ بملامح خطوطها، وحدودها المرسومة بعناية إرادات الهيمنة والتوسُّع الخارجيين.أمّا الشعوب المغلوبة على أمرها، فلا تملك سوى ندب حظها لأنّ حُكامها لم يبلغوا سنّ الرُّشد بعد مرور مائة عام على اتفاقية سايكس - بيكو ،وبات الأملُ معقوداً على بوتين- أردوغان.