كأنّ هناك قطبةً مخفية تقطع طريق التأليف كلّما لاح في الأفق إمكانُ بلوغه الخواتيمَ السعيدة. صار السؤال على كلّ لسان يَبحث عن السرّ الكامن خلف سرعة ذوبان الإيجابيات في تعقيدات تَبرز فجأةً من دون سابقِ إنذار.
 

43 يوماً مرّت على تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيلَ الحكومة، وما زال التأليف على حاله من الأخذ والردّ والدوران في الحلقة المفرَغة، من دون أن يتمكّن مِن اختراق جدار المواقف والتباينات والمطالب من هنا والمطالب المضادة من هناك، التي صعَّبت طريق ولادة الحكومة وجعلتها معلّقةً حتى إشعار آخر.إذا كان المؤلفون يحاولون أن يخفّفوا من حجم المشكلة والعقَد التي تعترض الوصول الى التشكيلة الحكومية العتيدة، بذريعة انّ التأليف ما زال ضمن فترة السماح، وأنّ الوقت لم ينفد بعد امام توليد الحكومة في وقتٍ قريب، إلّا أنّ اجواء الساعات الماضية عكست تراكماً كثيفاً للغيوم السياسية على خط التأليف، والعلامة غير المطمئنة انّ لونَها رماديّ يميل الى السواد، بما لا يؤشّر إلى انفراجات.
 

كأنّ هناك قطبةً مخفية تقطع طريق التأليف كلّما لاح في الأفق إمكانُ بلوغه الخواتيمَ السعيدة. صار السؤال على كلّ لسان يَبحث عن السرّ الكامن خلف سرعة ذوبان الإيجابيات في تعقيدات تَبرز فجأةً من دون سابقِ إنذار.
 

وكذلك عن الجهة التي تعطّل أو تؤخّر أو تماطل أو حتى تمارس المعاندةَ والمكايَدة السياسية، في وقتٍ يظهر جميع المعنيين بالتأليف وكأنهم ملائكة لا صلةَ لهم من قريب أو بعيد بشياطين التعطيل.
 

بعبدا
 

على خط القصر الجمهوري، الصورةُ تعكس أنّ إصراراً على تغليف جوّ التشاؤم بشيءٍ من التفاؤل، هو الغالب على كلّ ما عداه. كانت الأمور قابَ قوسين أو أدنى من إصدار المراسيم، ولكنّها عادت فجأةً الى ما قبل المربّع الاوّل.
 

وإذا كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يعتبر انّ حركة التأليف ما زالت ضمن الفترة الطبيعية، إلّا انّ ذلك لا يخفي شعوراً بشيء من الإحباط، والاستياء من اصطدام اندفاعةِ التأليف بتعقيدات فجائية في اللحظة التي كادت تبلغ عتبة التأليف الفعلي وإعلان ولادة الحكومة وفق الصيغة التي انتهت إليها ودارت حولها اتصالات الرئيس المكلف، أي صيغة الـ 24 وزيرا.
 

وثمّة تساؤلات في هذا الجانب حول الطرح التي استجدّ بالانتقال من صيغة الـ 24 وزيراً الى صيغة الـ 30 وزيرا، والإصرار عليها، وما إذا كانت تَستبطن ما هو أبعد من رفعِ العدد، وهو ما سيكشف عنه الآتي من الايام. إلّا انّ اللافت للانتباه هنا انّ اجواء بعبدا لا ترى انّ الابواب مقفلة بالكامل، خصوصاً وأنّ حبل التأليف لم ينقطع، وإنْ كان قد أصابَه شيء من التَملّع.
 

ولعلّ ما عكسته محطة الـ «او .تي .في» يعبّر بوضوح عن الأجواء السائدة في بعبدا، حيث اشارت الى دخول التأليف «فرصةً قسرية»، مع الإشارة الواضحة الى انّ «الأجواء ما تزال هادئة، بل مستمرّة على تفاؤلها، بلا تشنّج ولا توتر ولا سجالات في السياسة».
 

ولم تلغِ «الأمل بخلاص حكومي» مع الميلاد، إلّا أنّ ذلك يبقى مربوطاً بعامل وحيد هو «التخلّص من شهيّات المقاعد والحقائب، والتذكّر والتذكير الدائم، بأنّ لهذه الحكومة مهمّة محددة بقانون انتخابي عادل، وانتخابات حرة، وأنّ لها عمراً قصيراً لن يتعدّى بضعة أشهر، إلّا إذا كان هناك من يفكّر بالمحظور والمحذور، وهو ما سيكون ممنوعاً على الجميع».
 

«بيت الوسط»
 

وصورة التشاؤم نفسه ماثلة ايضاً في «بيت الوسط»، وبدا واضحاً انّ الرئيس سعد الحريري قد أطفَأ محرّكاته، والأجواءُ السائدة في هذا الجانب تعكس ما يشبه خيبةَ الامل لديه من تعثّرِ التأليف، وخصوصاً أنه قدّم كلّ ما يمكن من تسهيلات على مختلف الخطوط لإطلاق عجَلة التأليف بسرعة وصولاً الى حكومة الوحدة الوطنية التي يسعى إليها. والمزعج بالنسبة اليه انّ هناك من قابلَ هذه التسهيلات بوضع العصيّ في دواليب التأليف عمداً أو عن غير عمد.
 

ويَنقل عارفون انّ الحريري يشعر بأنّ هناك من يُماطل لتحقيق مكتسبات معيّنة وتحسين أوراقه وموقعه ربّما ربطاً بتطورات إقليمية، وتحديداً ما يجري في حلب، وبالتالي هو لا يَعتبر أنّ كرة تأخيرِ التأليف في ملعبه بل هي في ملعب الآخرين، ولا يبرّئ «حزب الله» ممّا آلَ اليه الحال، ويُنقل عنه قوله» إذا كان هناك من هو غير مستعجِل فأنا أيضاً لستُ مستعجلا».
 

كليمنصو
 

وعلى مسافة قريبة من «بيت الوسط»، تَبرز صورة امتعاض كلّي في كليمنصو من مسار التأليف، والطريقة التي اتّبِعت سواءٌ في تحديد شكل الحكومة، أو في نسبة تمثيل القوى السياسية أو في توزيع الحقائب الوزارية على هذه القوى وبشكل يأخذ من هذا ليعطي ذاك، او يفضّل هذا على ذاك.
 

وأجواء رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط تعكس رفضَه التعاطي مع الجانب الدرزي على أنه جانب هامشي، تكون معه حقيبة الصحّة ثمّ تُنتزع منه لتُعطى لغيره. ثمّ تُعرض عليه حقيبة العدل فيأتي من يريدها ليستبدلها بحقيبة التربية التي لا يريدها جنبلاط.
 

وهكذا. وفي الوقت ذاته يبقى الهاجس الأساس هو إثارة موضوع القانون الانتخابي النسبي على طريق تأليف الحكومة، واعتبار النسبية ممراً إلزامياً قبل الحكومة. يقول عارفون إنّ جنبلاط عبّر إلى الحريري في اللقاء الذي جمعهما ليل أمس الأول في كليمنصو، وأيضاً إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يتفهّمه، عن كلّ الهواجس التي تعتريه، وقد زادت جرّاء أداءِ البعض.
 

معراب
 

على انّ الصورة في معراب مغطّاة بعلامات استفهام حول التعقيدات التي تتوالد من خلفِ مواقف بعض القوى في فريق الثامن من آذار، مع تفهّمٍ كامل للجهود التي يبذلها عون والحريري لدفعِ التأليف الى الغاية المنشودة، خصوصاً وأنّ «القوات اللبنانية» تعتبر أنّ الطريق باتت سالكة وآمنة لإخراج الحكومة بالشكل الذي تمّ التفاهم عليه في الايام الاخيرة وقبل الفتح المفاجئ لشهية البعض على حكومة الثلاثين.
 

ومع التأكيد ايضاً على انّ «القوات» لعبَت من البداية دورَ المسهّل للتأليف الى ابعدِ الحدود، حتى على حسابها، بدليل التنازلِ الذي قدّمته حول بعض الحقائب التي سبقَ وطالبَت ان تكون من حصّتها، خلافاً للمنحى الذي يَسلكه بعض الفرقاء بوضعِ العصيّ في الدواليب.
 

عين التينة
 

إلّا انّ الصورة تختلف في عين التينة، التي لاحظت انّ هناك محاولةً لدى اكثرِ من طرف لرمي مسؤولية التعطيل على بري، ومِن خلاله على «حزب الله» وحلفائه.
 

وهنا تؤكد اوساط رئيس مجلس النواب لـ»الجمهورية» انّ هناك من يعتقد انّ جسمَنا لبّيس، ولكنّه لن يستطيع ان يلبّسنا ثوبَ التعطيل، المشكلة ليست عندنا، وكلّهم يعرفون ذلك، من ناحيتنا، الامور واضحة ولا لبسَ فيها، المشكلة في مكان آخر، هم يَعلمون اين هي، فليَبحثوا عن الحلّ الذي هو في أيديهم».
 

اللافت للانتباه في هذا السياق انّ بري لا يستطيع ان يبديَ تفاؤلاً بإمكان ولادة الحكومة في وقتٍ قريب ربطاً بالاجواء التي استجدّت في الايام القليلة. وقال امام زوّاره: «لسنا أبداً في موقع التهمة، والجميع يعلمون انّنا، أنا شخصياً والرئيسين عون والحريري اتّفقنا في لقائنا في بعبدا على حكومة وحدة وطنية من ثلاثين وزيراً، ولسنا نحن مَن تراجع عن هذه الحكومة، بل هم مَن تراجعوا».
 

وأشار بري الى «أنّ التوجّه هو نحو حكومة ثلاثين، ومعروف انّ في هذه الحكومة يوجد 6 وزراء دولة، يوزّعون وزيراً لكلّ طائفة. وأنا أسأل لماذا هذا «الكرم» علينا بإعطائنا وزيرَي دولة دون سائر الآخرين.
 

وهذه مسألة لم يَسبق ان حصلت على مرّ التاريخ اللبناني كما لم تحصل في أيّ عملية تأليف للحكومات السابقة. أخشى أنّهم من خلال هذا «الكرم» يحاولون قصداً أو عن غير قصد إعادتنا إلى الماضي، إلى ايام الحلّ الذي كان يجري في عهد «البكاوات». هذا الأمر نرفضه جملةً وتفصيلاً، ولا مزاح فيه معنا».
 

ورفضَ بري «أن يكون تعاطي البعض معنا على قاعدة طائفة بِنت ست وطائفة بنت جارية، كلّ الناس مثل بعضها، دلّوني في التشكيلة التي يجري إعدادها على ايّ فريق غيرنا طرَح أو يطرح عليه ان يكون لديه وزيرا دولة، إذا وجِد هذا الأمر فأنا على استعداد لأن امشيَ معهم، لكن أن نكونَ لوحدنا أبداً لن نقبل بذلك، فليَسمحوا لنا».
 

أضاف بري: إذا اعتقد البعض انّ تساهلَنا في تشكيل الحكومة يعطيهم الحقّ بأن يَمونوا علينا ويعطونا وحدَنا وزراء دولة، بينما أطراف اخرى لم تعط ايّ وزير، فهؤلاء يخطئون العنوان، في حكومة الـ 24 قبلنا ان يكون لنا وحدنا وزير دولة من باب التسهيل، لكنّ الأمر تفاقمَ الى حدّ انّهم لا يريدون فقط الحفاظ على ما لديهم، بل يأخذون منّا. أكرّر أنّني في حكومة الـ 24 طالبتُ بخمس حقائب وزارية، وهو حقّ لنا بحسب التوزيعة، فأعطونا اربع حقائب، وأما في حكومة الـ30 وزيراً فيريدون إعطاءنا 4 حقائب، مع وزيرَي دولة، لماذا؟ لا أعرف».
 

وقال بري ردّاً على سؤال: «المشكلة ليست عندنا أبداً، لقد سهّلنا التأليف الى ابعدِ الحدود وما زلنا على هذا التسهيل، هناك من يحيطنا بشكوك وترويج شائعات وما إلى ذلك، فلهؤلاء اقول اوّلاً علاقتي بالرئيسَين عون والحريري اكثر من ممتازة، ولا تشوبها شائبة، وإنْ شئتم فاسألوهما. وثانياً أنا اعرف اين هي المشكلة، وأعرف سرّ التعطيل، فلا تستفزّونا فتَدفعونا الى إعلانها صراحةً وعلَناً.
 

المحركات .. هادئة
 

في خلاصة المشهد، يتبيّن انّ التفاؤل الذي ساد في مطلع الاسبوع الجاري، سرعان ما انحسر مع نهايته، وهدأت محركات التأليف الى حدّ بدا معه أنّ الحلول من خلال المعادلات الحالية، قد بلغَت أقصى ما يمكن، وبات الحديث اليوم ليس عن حلول جديدة وجدّية، بقدر ما هو عن معادلات جديدة، على حدّ تعبير مصادر مواكبة عن كثب لحركة التأليف. والأمور جامدة عند العقدة التي استجدّت بطرح رفعِ عددِ أعضاء الحكومة من 24 وزيراً الى 30 ، وإصرار «الثنائي الشيعي» عليها.
 

وفيما اعتُبر هذا الطرح في نظر القيّمين على التأليف بأنّه دفع الى زيادة العقَد، لارتباطه بتعديلات في الحصص والحقائب الوزارية، أشارت المصادر نفسها الى انّ من بين العقَد المطروحة إصرار الحريري على الحقائب التي تمّ تحديدها لتيار المستقبل، ورفضُه التخلي عنها في ايّ مداورة مطروحة، وكذلك الامر بالنسبة الى حصة رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر»، وما يتّصل بحقيبة العدل التي لم يُحسَم مصيرها بعد.