أنتج الأميركيون على مر العقود الماضية، مجموعة كبيرة من الأفلام والمسلسلات التي تمتدح قدرة أجهزتهم الاستخباراتية والأمنية على التصدّي لمحاولات اختراق أنظمتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية من جانب السوفيات وحلفائهم في مرحلة أولى، ثم من جانب الروس بعد انهيار «حلف وارسو»، في تضخيم مقصود لمحاولات من جانب هؤلاء، وعبر روايات استندت الى وقائع وأحداث عايشوا بعضها مثل اكتشاف الجواسيس واعتقالهم أو قتلهم أو نجاحهم في الفرار وانشقاقهم. لكن ربما لم يكن يخطر على بالهم يوماً، أن يشهدوا عملياً ما يشبه تلك الافلام، من دون ان يكونوا قادرين على مواجهته والتصدي لنتائجه، او حتى التأكد من حقيقته.
وبين تلك الأفلام والمسلسلات ما يتناول خططاً سوفياتية وروسية معقدة لاختراق مراكز القرار في الولايات المتحدة، سواء عبر تجنيد المسؤولين الأميركيين أنفسهم، أو عبر «بدلاء» يشبهونهم ويحلّون مكانهم بعد خطفهم وتصفيتهم، أو عبر تربية فتيان وفتيات روس منذ الصغر وفق نمط الحياة الأميركي ثم دسّهم في المجتمع الأميركي بهدف وحيد هو جمع المعلومات.
وكُتبت نصوص معظم هذا الإنتاج استناداً الى ملفات وكالات الاستخبارات، خصوصاً «سي آي أي»، وتداخل فيها الواقع بالخيال، لكن الغالبية الساحقة منها انتهت بـ «انتصار» الأميركيين، بعدما أبرزت «ذكاءهم الخارق» في كشف ألاعيب العدو وأساليبه، ومقارعته بالمثل عبر زرع عشرات العملاء داخل روسيا والدول المتحالفة معها. واليوم، تتهم «سي آي أي» نفسها موسكو بالتدخل سراً في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتسهيل انتخاب دونالد ترامب، عبر قرصنة مواقع إلكترونية أميركية، بينها موقع «الحزب الديموقراطي» الأميركي ومراسلات مرشحته الى الرئاسة هيلاري كلينتون، وتسريب محتواها الى موقع «ويكيليكس» الذي نشرها.
هذا الاتهام الذي نفاه ترامب ورد في تقرير للوكالة سُرِّب الى الصحف بعدما أمر الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما بإجراء «تحقيق معمق» في احتمال أن يكون الروس وراء عملية القرصنة والتسريب، وأعلن الكونغرس أنه سيعقد جلسات استماع حول المسألة.
وأشعل هذا الملف مخيّلة الأميركيين وألهب وسائل التواصل الاجتماعي بين معارضي ترامب ومناصريه، وبين متّهميه بأنه «عميل» روسي وآخرين يرون فيه «منقذاً» للجنس الأبيض، ما دفع بعض المعلّقين الى طرح الأسئلة: ما الذي دفع أوباما الى الأمر بإجراء التحقيق في هذا الوقت، أي قبل ستة أسابيع من مغادرته البيت الأبيض وبعد أكثر من شهر على انتهاء الانتخابات، ولماذا أبلغت «سي آي أي» في هذا الوقت فقط المسؤولين بأنها سبق أن أجرت تحقيقها في القضية، ولماذا لم تبلغ الوكالة الرئيس بما توصلت إليه، ولماذا لم تتقاسم معلوماتها مع «مكتب التحقيقات الفيديرالي» (أف بي آي)، وكيف علم ترامب أن الروس غير متورطين، ولماذا تدخل الكونغرس؟ وجاء اختيار ترامب رئيس مجلس إدارة عملاق النفط «إكسون موبيل»، ريكس تيلرسون، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، وزيراً للخارجية، ليغذي الجدل، ويضفي نوعاً من الصدقية على اتهامات «سي آي أي»، ويعزز فرضية «المؤامرة» التي تواجهها الدولة العظمى، خصوصاً بعد حملة التشكيك في صحة الاختيار، التي شارك فيها قادة جمهوريون.
وسواء كانت قضية التدخل الروسي من نسج الخيال أو تنطوي على جانب من الصحة، فإن النتيجة الوحيدة المؤكدة هي أن روسيا في عهد بوتين باتت عاملاً شديد التأثير في الداخل الأميركي، مثلما كانت الولايات المتحدة عاملاً مؤثراً في الداخل السوفياتي. إنه انقلاب الأدوار والمراحل.