إنها حلب الحرة.. حلب الثورة.. مأساة مفتوحة منذ شهور أمام عيون وكاميرات العالم. صارت وجعاً يومياً. نعد القتلى بالعشرات ونرثي أطفالاً وأحلاماً. نلملم شظايا أرواحنا مع كل برميل متفجرات وقذيفة تطلقها قوات الأسد. ونكتفي بالدمع والأسى. مذنبة هذه المدينة الشهباء. عشقت الثورة باكراً فاستحقت العقاب اللئيم. قال «الممانع» الحاكم بأمر طهران وموسكو: فلتكن أحياؤها الشرقية «تابوتاً حقيقياً» لربع مليون إنسان لا بل فلتتحول الى «مقبرة هائلة».

فقد حذر مسؤول دولي رفيع من أن القسم الشرقي من مدينة حلب في شمال سوريا، قد «يتحول الى مقبرة ضخمة» إذا لم تتوقف المعارك واستمر الحؤول دون إيصال المساعدات الإنسانية الى السكان. وطالب مسؤول العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة ستيفن أوبراين بمساعدة مجلس الأمن الذي عقد جلسة طارئة بناء على طلب فرنسا.

لكن سفراء الدول الـ15 بدوا عاجزين مع تحميل الغربيين روسيا مسؤولية تدهور الوضع.

وقال أوبراين إن 25 ألف مدني فروا من شرق حلب منذ السبت، مشيراً الى سقوط «عشرات القتلى في غارة جوية واحدة صباحاً«، وموضحاً أنه بسبب عدم وجود سيارات إسعاف «نقل جرحى في عربات خضر».

ونبه المسؤول الدولي الى أنه «من المرجح أن آلافاً آخرين سيفرون إذا امتدت المعارك وتصاعدت في الأيام المقبلة». وأضاف «ندعو بل نرجو أطراف النزاع ومن لديهم نفوذ، أن يبذلوا ما بوسعهم لحماية المدنيين ولإتاحة الوصول الى القسم المحاصر من شرق حلب قبل أن يتحول الى مقبرة ضخمة».

وأشار الى أن الأمم المتحدة جهزت كميات من الأدوية والأغذية لإمداد عشرات آلاف الأشخاص وشاحناتها مستعدة لدخول حلب. وأكد أوبراين أنه «أمر حيوي أن تسمح لنا الحكومة السورية بنشر طواقمنا في حلب في أمان وبدون تضييقات لا طائل منها».

وعبّر عن «القلق البالغ» على نحو 250 ألف مدني عالقين في شرق حلب. وقال «هؤلاء الأشخاص محاصرون منذ 150 يوماً ولا يملكون وسائل البقاء لفترة أطول». وأعرب عن الأسف لأن «نداءاتنا وطلباتنا وحتى طلبات هذا المجلس، تجاهلها (مختلف أطراف النزاع) في شكل كبير».

ثم توالى ممثلو الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على الكلام محملين روسيا مسؤولية عرقلة أي حل.

وندد السفير الفرنسي فرنسوا دولاتر بـ«وحشية كبيرة تسود الهجوم الحالي للنظام» في حلب، مبدياً أسفه لكون المحاولات المتتالية لمجلس الأمن لإنقاذ سكان حلب «اصطدمت بعدم تجاوب روسيا».

وقالت السفيرة الأميركية سامنتا باور إن «المجلس لا يرد على نداءات مساعدة المدنيين (في حلب) لأن روسيا لا تريد ذلك».

واعتبر السفير البريطاني ماثيو رايكروفت أن «هذا المجلس كان عاجزاً تماماً عن التحرك. لماذا؟ لأن روسيا استخدمت الفيتو أيضاً وأيضاً«.

وذكر رايكروفت بأن إسبانيا ونيوزيلندا ومصر قدمت أخيراً مشروع قرار الى مجلس الأمن مطالبة بهدنة لعشرة أيام بهدف إسعاف السكان في شرق حلب، آملاً بتصويت سريع على المشروع، لكن أي موعد لم يتم تحديده لهذا الأمر فيما أعرب ديبلوماسيون في المجلس عن اقتناعهم بأن موسكو ستعرقل المشروع.

وشدد المبعوث الخاص المعني بسوريا ستيفان دي ميستورا في إفادته أمام المجلس عبر دائرة تلفزيونية من جنيف على ضرورة السماح للأمم المتحدة بالوصول إلى جميع المحتاجين للمساعدة أينما كانوا، وبدون شروط مسبقة.

وكرر السفير الروسي فيتالي تشوركين ضرورة مواصلة «عملية مكافحة الإرهاب» في حلب، متهماً الولايات المتحدة بعدم الإيفاء بوعدها بـ«فصل الناشطين الذين يعتبرون معتدلين عن إرهابيي جبهة النصرة». كذلك، اتهم الغربيين بالعمل على «إنقاذ الإرهابيين» و»استخدام مشاكل إنسانية لأغراض سياسية«. 

وقالت مصادر في مكتب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إنه ناقش الوضع في مدينة حلب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر الهاتف للمرة الثالثة في أسبوع واتفق معه على ضرورة وقف إطلاق النار.

وذكرت المصادر أن الزعيمين اتفقا على تكثيف المساعي للتوصل إلى وقف للأعمال القتالية وضرورة إيصال المساعدات للمدينة.

وكان ممثلون لفصائل معارضة التقوا مع مسؤولين روس في أنقرة الاثنين، من دون إعلان مستوى تلك الاجتماعات. 

وناشد رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض أنس العبدة في رسالة إلى الأمم المتحدة «اتخاذ خطوات فورية وحاسمة لحماية المدنيين في حلب ووقف الهجوم الوحشي على المدنيين فيها، من خلال إجبار نظام الأسد على الالتزام ببنود وقف الأعمال العدائية والسماح بوصول المساعدات الإنسانية والطبية لمدينة حلب بشكل فوري وبدون عراقيل ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم».

واتهم العبدة «نظام الأسد وحلفاءه بأنهم حولوا المناطق المحررة من مدينة حلب إلى تابوت حقيقي نظراً لكون مخازن الأغذية قد نفدت بشكل رسمي وكون المدنيين تحت حصار خانق».

ووصف العبدة في رسالته التصعيد العسكري الأخير بأنه «جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية تُسجل ضمن رصيد الوحشية الدموي الطويل لنظام الأسد»، مشدداً على أن «ضمان ألا يستمر إجرام النظام ضد السوريين بدون عواقب يقع على عاتق الأمم المتحدة».

وتعهدت المعارضة السورية بمواصلة القتال في شرق حلب في مواجهة تقدم حكومي مفاجئ أفقدها السيطرة على ثلث القطاع الذي تهيمن عليه من المدينة في الأيام الأخيرة مما جعلها على وشك التعرض لهزيمة كارثية.

وذكر مصدر عسكري تابع لقوات الأسد أن جنود الحكومة والقوات المتحالفة معهم استعادوا السيطرة الكاملة على حي الشيخ سعيد على الطرف الجنوبي للمنطقة التي تسيطر عليها المعارضة في شرق حلب، لكن المعارضة نفت ذلك وقالت إنها ردت القوات الحكومية. وقال المرصد السوري إن الفصائل المسلحة لا تزال تسيطر على ثلث الحي.

وأكد النقيب عبدالسلام عبدالرزاق المتحدث العسكري باسم حركة «نور الدين الزنكي» مقتل 35 عنصراً من ميليشيات إيران وجرح عدد آخر إثر تمكن الفصائل الثورية من استعادة كافة النقاط التي تقدمت عليها تلك الميليشيات في حي الشيخ سعيد بحلب.

وأشار عبدالرزاق إلى أن الثوار تمكنوا أيضاً من أسر 4 عناصر من ميليشيات إيران الشيعية، معظمهم يحملون الجنسية الأفغانية.

وأبلغ زكريا ملاحفجي رئيس المكتب السياسي لتجمع فاستقم الذي ينشط في حلب رويترز أن جماعات المعارضة المسلحة في المدينة رفضت أي انسحاب. وقال متحدثاً من تركيا من دون الخوض في التفاصيل «هذا قرار الفصائل أنا تكلمت معهم بكل ما طرح.. فهم ما ممكن ينسحبوا ويمكن تصير أشياء أخرى«.

وقال المرصد الذي يتخذ من لندن مقراً له إن الحكومة اعتقلت واستجوبت مئات الأشخاص الذين اضطروا للفرار من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة إلى مناطق أكثر أمناً نسبياً تسيطر عليها الحكومة.

ونفى مصدر عسكري تابع للحكومة ذلك قائلاً إنه لم تحدث اعتقالات لكنه أضاف أن الأشخاص النازحين الذين لا تعرف هوياتهم يُنقلون إلى «أماكن محددة» في المنطقة من حلب التي عثر فيها على المدنيين الفارين.

وفي غضون ذلك قال مسؤول في جماعة الجبهة الشامية المعارضة في حلب إن القوات الحكومية كثفت الضربات الجوية بما في ذلك على المدينة القديمة في حلب. وقال عمال إنقاذ في شرق حلب إن 45 شخصاً قتلوا في أحدث موجة قصف.

ومع بقاء عشرات الآلاف من الأشخاص في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في حلب يقول كثير من الأشخاص إنهم يفضلون الموت على الاستسلام للحكومة التي يحاولون الإطاحة بها منذ اندلاع الاحتجاجات ضد الأسد في 2011. وذهب آلاف الأشخاص الذين فروا من القتال إلى حي الشيخ مقصود الذي يسيطر عليه الأكراد ولم يسلموا أنفسهم إلى الحكومة التي يتهمها محققو الأمم المتحدة باعتقال نشطاء ومدنيين سراً.

وقال ساكن من شرق حلب يدعى سالم أبو مضر إنه على الرغم من أنه لم يحمل سلاحاً مطلقاً ضد الحكومة لكنه قال «أخشى ألا يتركني النظام أمضي وأن ينتهي بي الأمر في أحد سجونه الكثيرة«.

وقال عمال إنقاذ في منطقة المعارضة إن تجدد القصف المدفعي أودى بحياة أكثر من 45 شخصاً معظمهم نساء وأطفال أمس الأربعاء وأصاب عشرات آخرين ومن بينهم بعض من فروا من مناطق المواجهة. وقال المرصد السوري إن 26 شخصاً قتلوا في ذلك الهجوم.

وقال ممرض ومصور يدعى عارف العارف ويعمل في الجزء الذي تسيطر عليه المعارضة من المدينة «اليوم كان في مجزرة تانية أنا كنت شاهداً عليها. النازحون كانوا الساعة 6:30 صباحاً متجهين من الأحياء الشرقية بمدينة حلب. كان في قصف مدفعي هني (هنا) وكانوا ماشيين بالشوارع. عن جد (حقاً) شي فظيع جداً جداً«.

وأظهرت صور أرسلتها هيئة الدفاع المدني للإنقاذ للوضع بعد الهجوم أشخاصاً غارقين في برك من الدماء في الشوارع ومن بينهم امرأة ترتدي ثياباً سوداء كانت تحمل حقيبة ظهر كبيرة. 

وقال مركز «الدفاع المدني في حلب» إن قوات النظام استهدفت بالمدفعية النازحين من حي جب القبة شرق حلب، وقتلت 45 شخصاً منهم جميعهم مدنيون ومعظمهم من النساء والأطفال، في حصيلة تبقى أولية، كما أصيب آخرون في الاستهداف ذاته.

ونشر المركز صوراً لجثث متناثرة من المدنيين مع حقائبهم بعدما قضوا في القصف العنيف الذي استهدفهم.