أولى نتائج الاشتباك بين الرئاستين الأولى والثانية أنه وضع تأليف الحكومة على الرف، واحتمال ولادتها قبل عيد الاستقلال دخل مرحلة الصعوبة الشديدة، إلّا إذا لعب عقل الرحمن لعبته في رؤوس بعض العاملين على هذا الخط، وأُدخلت هذه الحكومة فعلاً الى غرفة الولادة الأكيدة.هذا الاشتباك فرض نفسه، وصارت الأولويّة هي البحث عن أسبابه وكيفية اطفائه، والى أن يتدخّل الاطفائي المجهول الهوية حتى الآن، تبقى لغة الاشتباك هي السائدة من خلف المتاريس.
 

لمذا حصل هذا الاشتباك، ما هي أسبابه ودوافعه وخلفياته، والى أين سيصل؟
 

هذا السؤال هو الوحيد الطافي على السطح الداخلي، ولا جواب شافياً حتى الآن. من السذاجة القول إنه ناجم من «قلوب مليانة» على حدّ ما ذهب اليه البعض في تبرير حصول هذا الاشتباك، خصوصاً أنّ هذه القلوب قد غسلتها سياسة اليد الممدودة للتعاون التي مُدَّت بمجرّد انتخاب رئيس الجمهورية، وبالتالي فتحت صفحة جديدة كادت على وشك أن تكتمل بتأليف وشيك لحكومة سعد الحريري.
 

إذا عدنا لساعات قبل الاشتباك تتجلّى الوقائع الآتية:
 

- مسار التأليف كان يسير بخطى جدّية واقترب المخاض من لحظة الولادة، التي صار يحدّد زمنها بساعات.
 

- الرئيس الحريري أنجز مسودة لحكومة من 24 وزيراً، تشاور حولها مع القوى السياسية، وتواصل مع رئيس مجلس النواب الذي زاد تفاؤله في إمكان الوصول الى ولادة حكومية سريعة، وانتظر أن يصدر شيء ما حول هذه الحكومة ليل الأربعاء، بعدما حمل الحريري هذه التشكيلة الى القصر الجمهوري ووضعها في يد رئيس الجمهورية ميشال عون.
 

كان الحريري على ثقة بأنّ هذه المسودة الحكومية ستبصر النور، لكنّ ما حصل هو أنّ عون لم يوافق عليها، بل استمهل لبعض الوقت لدراستها. وغادر الحريري منتظراً أن يتلقى اتصالاً من رئيس الجمهورية بعد أن ينتهي من هذه الدراسة.
 

- يزور الرئيس عون بكركي، وهناك ومن دون أيّ مقدمات، يستحضر مجلس النواب ويصوّب عليه من زاوية التمديد. ويلقي على هذا التمديد كلّ الموبقات والأوبئة والأمراض السياسية والاقتصادية والإدارية والمعيشية التي يعاني منها البلد.
 

وهذا الكلام استتبع رداً من برّي. فهل أصاب عون في هذا الهجوم المفاجئ على مجلس النواب، أم إنه أخطأ بالعودة الى سجال ما قبل انتخابات رئاسة الجمهورية حول المجلس وشرعيّته؟ ومعلوم أنّ بكركي صرح مسيحي وطني جامع، فهل أصاب عون في اختيار منبرها لإطلاق النار السياسي على مجلس النواب، أم إنه أخطأ في ذلك؟
 

وفي المكان نفسه يتلقّى عون دعماً من المرجعية المارونية، فبدا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي يعزف مع عون على الوتر ذاته ويصوّب معه في اتجاه معيَّن، فأطلق النار على «سلّة الشروط» (التي هي سلّة التفاهمات المسبَقة التي طرحها بري)، وعلى حقيبة المال عبر قوله بأنه لا يجوز في أيّ حال استبدال «سلّة الشروط» بصيغ التشبّث بحقائب وباستخدام «الفيتو» من فريق ضدّ آخر.
 

وهذا أمر مخالف للدستور ووثيقة الوفاق الوطني». وهذا الكلام استتبعه ردّ من المرجعية الشيعية تؤكد فيه على هذا الحق بحقيبة معيّنة، مع التذكير بماضي الحرمان والاستضعاف.
 

وهذا السجال بين المرجعيّتين المارونية والشيعية، لا ينبغي المرور عليه مرور الكرام، خصوصاً أنه لا يجب أن يحصل أصلاً، لكنّ ما حصل يفتح على سؤال خطير: الامَ يؤسّس هذا السجال؟ وأين المصلحة في إشعاله بين هاتين المرجعيّتين، بل لمصلحة مَن؟
 

وهل أصاب البطريرك الراعي الذي له تقديره واحترامه لدى المستويات كلّها، وخصوصاً الشيعية، في استمرار الغمز على «السلّة» واستحضار حقيبة وزارية مهما كان نوعها؟
 

في هذا الاشتباك، كان برّي في موقع المتلقي وليس في موقع المبادر اليه، وثمّة سؤال في عين التينة: لماذا هذه الهجمة، ولماذا يُعاد فتح صفحة سبق أن طُويت، والتصويب على مجلس نيابي هو الذي انتخب رئيس الجمهورية الذي يهجم عليه ويشكك فيه، وما هي المصلحة في إعادة فتح هذه الصفحة»؟
 

في زمن التأليف الحالي، يُراد، بحسب ما عبّرت عنه «النيات الحسنة» تشكيل حكومة تقود المرحلة الانتقالية الى ما هو أفضل للبلد. خطورة هذا الاشتباك الرئاسي، بالمعنى السياسي، أنه اندلع والبلد ما زال على مقربة أيام من انتخاب رئيس الجمهورية، ومحا كلّ الوهج الذي صعد مع انتخاب رئيس الجمهورية.
 

فهل الاشتباك بين الرئاستين الأولى والثانية يعطي إنذاراً خطيراً لما هو آت، خصوصاً أنّ أخطر ما في اشتباك بهذا الحجم، هو إن كان المُراد منه قصداً أو عن غير قصد، أن يشكل مرحلة انتقالية للاشتباك الدائم.
 

واشتباك الأمس، كان أشبه بوضع «حجر الأساس» لبناء حلبة مصارعة سياسية مفتوحة. وفي هذه الحال، تصبح القدرة على الإنجاز أضعف ممّا هي عليه الآن، أو ربما تنعدم، وتصبح الأولوية للاشتباك لا للإنجاز الموعود مع الإصلاح والتغيير!
 

في مكان ما، لا ينفصل هذا الاشتباك عن حركة تأليف الحكومة المرتبط حتماً بما بعده، وقد تكون أسبابه، على ما يقول سياسيون، مردّها الى خلاف جدّي على قراءة اللوحة السياسية في المرحلة المقبلة، وكيفية إعادة تركيب قطع البازل السياسية الداخلية، وترتيب سلّم الأولويات.
 

قد يكون في ذهن بعض المستويات السياسية أنّ هناك إمكانية لخلط الأوراق الداخلية كلّها وفرض توازنات جديدة. وهو أمر فيه شيء من المقامرة المتسرّعة، ذلك أنّ جذور اللعبة السياسية وتوازنات القوى ومصالحها راسخة الى درجة أنّ مَن يعتقد أنه يستطيع حالياً أن يمسّ جوهرياً هذه التوازنات يكون واهماً.
 

وفي رأي هؤلاء السياسيين أنّ محاولة فرض هذه التوازنات الجديدة تبدّت في مرحلة التأليف عبر:
 

- التعاطي مع «القوات اللبنانية» وكأنها الوحيدة صاحبة الفضل الحصري بوصول عون الى رئاسة الجمهورية، ومسايرتها ومداراتها وبالتالي مكافأتها بتضخيم حصتها الوزارية بما يفوق حجمها السياسي والنيابي، وعلى حساب سائر المسيحيين.
 

- التعاطي «الكيدي» مع سليمان فرنجية، تارة بمحاولة إبعاده ووضع «الفيتو» على إشراكه في الحكومة، وتارة أخرى بالقبول بإشراكه على مضض ومحاولة إسناد حقيبة وزارية متواضعة له. مع أنّ هذا التعاطي مرفوض من فرنجية وكذلك من حلفائه القدامى والجدد الذين يرفضون مكافأته بتحجيمه، أو المنّ عليه بحقيبة وزارية «كيفما كان». في وقت يُمَنُّ فيه على بعض الأطراف بحقائب أكبر من حجمها.
 

علماً أنّ هذا الرجل كان على شفير الوصول الى الرئاسة في لحظة معيّنة، ومع ذلك نزل عند رغبة حلفائه ولم ينزل الى مجلس النواب لانتخابه، ولو فعل ونزل الى المجلس آنذاك، لكان هو الآن رئيس الجمهورية.
 

- إبعاد القوميين عن الاشتراك في الحكومة، مع أنّ لهؤلاء موقفهم الثابت من دعم عون من اللحظات الأولى لترشيحه، ووقفوا معه بل قاطعوا معه حضور الجلسات الانتخابية في مجلس النواب، خلافاً لبعض الذين التحقوا مكرَهين ومتأخّرين بهذا الترشيح، ويحاولون أن يجنوا وحدهم ثمار الالتحاق المتأخّر في الجنّة الحكومية.
 

- التعاطي المرتبك مع حزب الكتائب، بدءاً برفض إشراكه في الحكومة، ثمّ التردّد في إشراكه، ثمّ إن تمّ القبول به فعلى مضض.
 

- حصر التمثيل المسيحي بمّن يُسمَون «القوى الكبرى»، وإبعاد كلّ الآخرين من سياسيين مستقلين ومعتدلين وشخصيات وازنة لها حضورها وثقلها، ومحاولة إلغائها من الوجود، وأكثر من ذلك اختزال طوائف كاملة بحزبيّين ينتمون الى «القوى الكبرى»، أو بمَن يسميهم هؤلاء الحزبيون.
 

- استمرار الحديث عن حكومة العهد المقبلة ما بعد الانتخابات، وانطلاقة العهد وفعاليته وما شابه ذلك، علماً أنّ القول بحكومة العهد تصلح لزمن ما قبل الطائف، إذ بعد الطائف صارت كلمة «العهد»، كلمة رمزية معنوية، وأما الحكم الفعلي فهو لمجلس الوزراء مجتمعاً ورئيس الجمهورية هو جزءٌ من هذا الحكم، وليس كلّه.
 

- استمرار العزف على وتر التمديد للمجلس النيابي والقول إنه غير شرعي، وتناسي مهمته الكبرى التي أدّاها قبل أسبوعين بانتخاب عون رئيساً للجمهورية. ألا يمكن أن يفتح هذا الكلام الباب أمام آخرين ليقولوا إذا كان المجلس غير شرعي فإنّ ما بُني على غير شرعي هو غير شرعي؟
 

يتأكد ممّا تقدّم، أنّ اشتباك الرئاستين يؤكد أنّ البلد أمام أزمة سياسية كاملة المواصفات، أحدثت صدمة سلبية على مستوى البلد كله، وباتت تحتاج الى جهود خارقة لإعادة تبريد النفوس وترميم ما تصدّع... وبالتأكيد هذه المهمة لن تكون سهلة.


 

نبيل هيثم