اذكر، وقبل 11 عاما، كيف ساعدني في احياء ذكرى 13 تشرين الاول 1990، لاعداد تحقيق عن " شهداء عكسر في الجيش اللبناني" مدفونين في ملعب وزارة الدفاع في اليرزة.

كان ذلك في تشرين الاول 2005. قال لي حرفيا: "لا بد ان نساعد الاهالي ونريحهم، حتى ولو قلنا لهم ان بعض ابنائكم مدفونون هنا، وليسوا معتقلين. على الام ان ترتاح".
اذكر، ونحن على مشارف ايام من انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية، كيف كان لا يترك مناسبة وطنية الا ويعرف كيف يحييها، مع ابطالها الحقيقيين، اي مع اهالي المعتقلين في السجون السورية، لا في احتفالات هزلية وخطابات رنانة ومهرجانات "شعبوية"، لا تترك للذكرى معناها الحقيقي ولا وجوهها الحقيقيين.
في كل هذه الذكريات، اسم واحد ورجل واحد هو غازي عاد.

نعم، انه رجل. انه رئيس "هيئة دعم اهالي المعتقلين في السجون السورية" (سوليد) الذي غادرنا اليوم. غازي عاد اتعبه المرض ونالت منه غيبوبة قاتلة.
رحل غازي قبل ان يفرح قلوب امهات المعتقلين. رحل، وان كان قد ازال قبلا خيمة الاهالي من حديقة جبران خليل جبران. كان ذلك، قبل نحو عام، وتحديدا في اليوم العالمي لحقوق الانسان، في 10 كانون الاول 2015 .
يومها قال عاد: " 11 عاما مرت... لم يترك اهالي المعتقلين أي وسيلة سلمية للاحتجاج والتعبير والمطالبة بحقهم في معرفة مصير احبائهم. ما قام به الاهالي من تحركات احتجاجية ونشاطات ومؤتمرات في ظل ظروف مناخية قاسية، صيفا وشتاء، وفي ظل ظروف سياسية، اقسى من التهميش والوعود الكاذبة، يستحق كل التقدير والاحترام والاعتزاز بهذا المثال الذي جسدوه للمرأة اللبنانية المناضلة والقادرة على مواجهة كل التحديات، من اجل الوصول الى حقها وحق عائلتها في معرفة مصير الذين انتزعوا من وسطنا، بقوة الشر وبجريمة ضد الانسانية لا ترحم الضحية ولا اهل الضحية".
اليوم، ينتزع الموت منا وبقوة غازي عاد. غادر ليترك صونيا عيد وفيوليت ناصيف وفاطمة عبد الله وغيرهن كثر. بتن وحيدات. كان عاد بمثابة القوة والدعم والمحرك. اليوم، بتن يتيمات. كان بمثابة الابن الذي يفتقدن، او الاخ او الزوج او حتى الاب.
اليوم، خسرن حتى غازي عاد. رحل بصمت. تماما كما كان يعمل. في مستشفى رزق، قتلته الغيبوبة. هو الذي كان ينشط بلا كلل، وبلا اعلام، وبلا وجاهة، والاهم بلا اي مردود. كانت تلك قوة غازي عاد. كان " كالراهب" الذي ينذر حياته، ايمانا برسالة، ولا ينتظر اي شيء في المقابل.
في اي لحظة، كان يرد على هاتفه، لاعطاء اي معلومة او توضيح او تعليق، يساعد في قضية المعتقلين. كان عاد قويا وصلبا، لم تجمدّه كرسيه المتحرك. لكن تلك الغيبوبة انتصرت عليه.
كان في حال جهوز دائم، على عكس كثر، دفنوا القضية، تماما كما دفنت بعض جثث شهداء العسكر اللبناني في ملعب فوتبول!
غازي عاد بقي وحيدا، الى جانب الامهات، لانه الاصدق. حتى في عزّ التظاهرات، كان في الطليعة.
هو حمل ملف المعتقلين داخليا وخارجيا. انما من تبنّى القضية لاعوام، تناساها في لحظة. وفي لحظة اخرى، عمل عكسها وقطع فوقها أشواطا واشواط. لم تعد موجودة، حتى في خطابه. حتى كلماتها ماتت في مواقفه. حتى احياء الذكرى بشكلها الصحيح ومعناها الحقيقي، باتت "كثيرة" على الشهداء والمعتقلين واهلهم...
ماتت اوديت سالم دهسا بسيارة. مات غازي عاد بغيبوبة قاتلة. ازيلت الخيمة، لكن القضية ينبغي ان تستمر.
هناك، في اقبية السجون، معتقلون. هناك تحت التراب، شهداء مدفونون.
وهناك ايضا، في مقابر جماعية، رفات مرمية. " بالله عليكم" اريحوا قلوب الامهات. للحظة، ولمرة واحدة، اريحوا تلك القلوب.
في العهود السابقة، اعتاد المسؤولون، شكل خيمة اعتصام الاهالي، لاكثر من 11 عاما. كان لا بد من " نشاط صادم"، حتى يستفيق بعض الضمير.
اليوم، مات غازي عاد. وهل من صدمة اكبر وحزن اعمق. تحية لروح غازي، لا بد من انعاش القضية. فشل الاطباء في انعاش غازي، لكن القضية لن تموت، وفاء له.

اليوم، بات هناك عهد جديد. ولعلها ليست صدفة ابدا ان يكون الشخص الاول المسؤول في هذا العهد، هو من كان مناصرا لقضية المفقودين اولا. وعلى الرغم، من الاهمال والتناسي، عن قصد او غير قصد، تجاه هذه القضية الانسانية، لا بد له ان يتحرك اليوم. عليه ان يتحرك!. اولا، اعادة وفاء لتلك القضية، وثانيا وفاء لروح غازي، الرجل، الذي ابتعد في الاعوام الاخيرة من حياته، عن التواصل مع من كان يظنهم رفاق درب ورفاق قضية واحدة، الا ان السياسة تأتي دوما لتفرّق كل شيء، لا بل لتشوّه كل شيء.
غازي، هو الرجل. بقي على عهده، حتى الرمق الاخير، وبات اليوم عليكم، ايها المسؤولون، ويا ايها الرؤساء، ان تفوا عمر غازي عاد، بعد رحيله. هذا العمر المليء بالنضال والتعب والوفاء... مقابل لا شيء.
رحل غازي عاد، هو الرجل الذي سيبكي قلوب الامهات مرارة وحزنا... ويبقي غصة ستحفر عميقا، الى حد الضيق !!!

 

النهار