لم يكن انقلاباً ولن يكون. شهدت الانتخابات على شرخ عميق في المجتمع الاميركي بين أقلياته المتنافسة، او بالاحرى بين كتلتين متساويتين تقريبا، ما يمكن ان يؤدي الى اضطراب شعبي شديد، لكنه لن يسفر عن تحول جذري لا في السياسة الداخلية، ولا طبعا في السياسة الخارجية، التي لم تكن مؤثرة أصلاً، لا سيما عندما تعرضت اميركا الشهر الماضي لواحدة من اكبر الغزوات الالكترونية الخارجية وأخطرها، من دون أن ترد او ان تدافع عن اراضيها وشبكتها العنكبوتية التي تعطلت لنحو 12 ساعة.
هي مجرد إنطلاقة لأربعة اعوام جديدة من العزلة الاميركية، يمكن ان تمتد لثمانية اعوام اذا نجح الرئيس الاتي من خارج النادي السياسي الاميركي، ومن هامش المؤسسة التقليدية الحاكمة، الى الحكم، ليؤسس لتحالف عقاري ريفي زراعي هجين، في وجه تحالفات جمهورية قوية مركزها صناعات الطاقة والسلاح والتكنولوجيا، وتحالفات ديموقراطية ليبرالية مؤثرة محورها الحريات الفردية والتعددية الثقافية.
لن يستطيع الرئيس دونالد ترامب ان يقوض المؤسسة الحاكمة، لأنه لا يرغب في ذلك أصلاً. خاض معركة انتهازية واضحة، استثمر فيها الغضب الشعبي من تلك المؤسسة ومعابدها وأصنامها، من أجل الوصول الى البيت الابيض من دون برنامج يمس قواعد العمل السياسي وطقوسه وقوانين الانتخاب وتعقيداتها، ومن دون جدول أعمال عدا توسيع دور الولايات ومبادرت الافراد والشركات الصغرى، على حساب أدوار الحكومة الاتحادية ومسؤولياتها وإرتباطاتها.
وهي وصفة جاهزة لزيادة حدة الاستقطاب الداخلي، وتاليا للالتزام بسياسة الانكفاء الخارجي الذي بدأه الرئيس الحالي باراك أوباما، قبل ثماني سنوات وتحول الى خيار وطني استراتيجي للغالبية الساحقة من الشعب الاميركي على اختلاف انتماءاته وميوله السياسية. لن ينزل خصوم ترامب الى الشوارع، لكن إحساسهم بأنهم فقدوا أرصدتهم في "الشركة المساهمة"-الدولة، يمكن ان تحسم من ولائهم وتجردهم من التطلع الى الحلم الاميركي، الذي لم يعد يدركه كثيرون من المهاجرين، عوملوا معاملة سيئة في المطارات والمرافىء الاميركية، حتى قبل اعلان نتائج الانتخابات.
إنتخب ترامب من نصف الاميركيين، البيض أساساً، الذين يتوقعون ان يصبحوا أقلية أميركية خلال عقد من الزمن، والذين يشعرون أن أميركا خسرت معركة العولمة، ويريدون منه المضي قدماً في بناء جدار عازل بينهم وبين بقية دول العالم وشعوبه، ويطالبونه بإسترداد وظائفهم من المكسيك والصين وغيرهما.. من دون الحاجة الى الشركات المتعددة الجنسيات ومن دون الحاجة الى مغامرات خارجية ثبت فشلها طوال العقدين الماضيين وربما أكثر.
في خطاب النصر، قال ترامب مرة أخرى ان اميركا تحتاج الى اعادة إعمار بناها التحتية كاملة التي يرجع بعضها الى فترة الخمسينات من القرن الماضي. لم يكن يتحدث بلغة المقاول العقاري، كان يحكي عن خطة قديمة رددها أوباما نفسه، طوال ثماني سنوات، وهي تشمل قطاعات الصحة والتعليم والطاقة.. هذا هو التحدي الابرز وربما الأوحد أمام الرئيس المنتخب وكل ما عداه تفاصيل.
السياسة الخارجية كانت خارج البحث، وستبقى. ما قاله ترامب طوال حملته الانتخابية لا يعدو كونه هلوسة لم تنل اعجاب أحد سوى الروس ورئيسهم الهذياني فلاديمير بوتين. لا يعني ذلك ان ثمة حلفاً مقدساً سينشأ بين الرئيسين وبين البلدين. الصراع الثنائي مع الصين والتحالف الموضوعي مع أوروبا، يمكن ان يشكلا ضوابط للعلاقة المستقبلية بين واشنطن وموسكو.. التي لن تجد قاسماً مشتركاً أهم من العداء للاسلام والصراع مع المسلمين الذي تخوضه الولايات المتحدة وروسيا بتنسيق لم يسبق له مثيل على مختلف الجبهات، بحيث تكاد أساطيلهما الجوية والبحرية تقاتل من غرفة عمليات واحدة.
ليست أبداً بداية العزلة الاميركية التي انطلقت بالفعل مع الرئيس الحالي باراك أوباما. لكنها مجرد تحديث لأولوياتها وتطوير لدينامياتها.. بواسطة مقاول محنك.