الازدراء الذي يبديه العالم الخارجي تجاه المرشح الجمهوري للرئاسة الاميركية دونالد ترامب، مضحك ومفتعل ، يدعي التعبير عن هوية نخبوية زائفة، ويزعم الانتماء الى قضية عالمية ماضية، ليس لها صلة بالواقع، ولا بالسياسة الدولية التي ساهم الاميركيون في تشكيلها طوال قرن مضى، قبل ان يتحولوا أخيراً من دولة عظمى متفوقة، الى دولة متواضعة لا تشتهر اليوم الا بفضائحها..

المرة الاخيرة التي كانت فيها الولايات المتحدة تمثل تجربة رائدة هي في اليوم التالي للحرب العالمية الثانية عندما حققت النصر على النازية والفاشية  وساهمت في انتاج ثلاث تجارب بديلة ناجحة بكل المعايير، في كل من المانيا واليابان وايطاليا. منذ ذلك الحين لم تقدم اميركا سوى الحروب والتدخلات العسكرية والامنية التي صنعت جمهوريات الموز والدكتاتوريات العسكرية الموزعة في مختلف انحاء العالم، والتي لم تمثل سوى المخرج  السيء من طغيان التجربة الاشتراكية.

في رصيد اميركا العالمي الكثير الكثير مما يبرر الشماتة بالاميركيين الذين يبدة اليوم ان لعنة ما  حلت عليهم او غضباً  إلهياً  يضربهم، ويتجسد في ذلك الرجل الاخرق الذي قد ينتخب رئيساً لهم الثلاثاء المقبل، ويكشف خواء تجربتهم السياسية، التي كانت تبدو في ما مضى مثالية، وعقم ظواهرهم الثقافية التي كانت تبدو في ما مضى رائدة.. ويقدم اميركا الان على حقيقتها التي لم يعرفها الكثيرون والتي كانت تتخفى وراء سور حديدي يشبه ذاك الذي سيج اوروبا الشرقية طيلة عقود.

النخب العالمية، المتصلة بالنخبة الاميركية، والتي تتنكر اليوم لظاهرة ترامب وتترفع عنها، تعبر عن موقف سوريالي عجيب، يوحي بان الرجل هبط فجأة من السماء ، وصل  للتو من كوكب آخر، وشرع في تنفيذ عملية خداع جماهيرية لم يسبق لها مثيل، وفتح سوقاً واسعاً لشراء اصوات الناخبين الاميركيين، حتى بات قاب قوسين او ادنى من التربع على عرش الحكم في "الجمهورية الاميركية الفاضلة".  

 يتجاهل الجميع حقيقة ان ذاك الرجل المنبوذ ، بل والمحتقر ، بات يمثل ما يقرب من مئة مليون اميركي،  يشكلون كتلة بشرية هائلة من "الرعاع البيض"، أنصاف الأمييّن، الذين كانت النخبة الاميركية تقودهم الى فتوحاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، فقرروا اليوم ان يتسلموا زمام المبادرة ويسلموا القيادة لمرشح شعبوي يخاطب غرائزهم ويحرك عصبياتهم.لم ينخدعوا ولم يتعرضوا للكذب، عندما استفاقوا فجأة على انهيار احوالهم المعيشية ومكانتهم الاقتصادية، او عندما سلموا بان مصدر أزمتهم وسببه هو  الهجرة والمهاجرين. هذا المرشح الاخرق الذي يقف الان على عتبة البيت الابيض، كان ولا يزال يعتبر نابغة بالنسبة الى ملايين الاميركيين، بالمقارنة مثلا مع الرئيس الاسبق جورج بوش الابن الذي لم يكن يعرف ألف باء السياسة، والذي قاد اميركا الى حربين فاشلتين، كما يعتبر داهية بالمقارنة مع منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون، التي تعوزها الحنكة والثقة والجرأة على تحطيم هياكل السياسة الاميركية وأصنامها.

الخوف العالمي من ترامب يعكس قدراً كبيراً من الجهل والنفاق: يقال ان انتخابه يمكن ان يقوض أسس الديموقراطية الاميركية التي يعرف العالم كله انها اسوأ الديموقراطيات الغربية واشدها خضوعا لسلطة المال.. ويقال ايضا ان إنتخابه يمكن ان يشعل حربا اهلية بين  جمهوره وبين بقية الاقليات الاميركية، مع ان اميركا كان لها دور رئيسي في إشعال معظم الحروب الاهلية التي شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.. ويقال ان  انتخابه يمكن ان يدخل اميركا في طور من العزلة تؤدي الى اضطراب عالمي شديد، مع ان أحداً لا يمكن ان يدعي أن اميركا أعادت النظام الى اي بقعة من العالم، بل حصل العكس تماما ، سواء عندما تدخلت او عندما امتنعت عن التدخل.. الاستقطاب الحاد الذي يتسبب به ترامب، استثنائي فعلا، لكنه ليس مخيفاً أبداً . لعل انتخابه يمكن ان يكون مريحاً للعالم كله، إن لم يكن باعتباره إنتقاماً أو عقاباً لاميركا ، فعلى الاقل بصفته درساً للاميركيين.