كاريكاتورياً، يرسم أحد الخبثاء الصورة كالآتي: الحريري يحبّ عون، عون يحبّ «حزب الله»، و«الحزب» يحبّ بري، وبري يحبُّ أن يحبَّ الجميعُ بعضُهم بعضاً، في شكل متبادل، أي في شكل «سلّة»... وهكذا دواليك في الدائرة المقفلة التي لا يشاء فيها القدر أن تكتمل الأفراح!بعد ترشيح الحريري لعون، أكثر اللاعبين يخبّئون مواقفهم الحقيقية، خلافاً للرئيس نبيه بري. ويمكن القول إنّ كثيرين يراهنون على «صمود» بري لتعطيل انتخاب عون، من دون أن يسوِّدوا وجوههم معه.

يتحمّل بري أعباءَ المواجهة التي يخوضها مع عون وحيداً:

- «حزب الله» لا يريد خسارة التغطية المسيحية القوية التي يوفرها عون.
- جنبلاط لا يريد خسارة الناخبين المسيحيين، العونيين والقواتيين، في الجبل.
- الحريري لا يريد خسارة فرصة العودة إلى اللعبة السياسية الداخلية والى السلطة، ولو كان مشكوكاً فيها.
- جعجع لا يريد خسارة الانسجام المسيحي والفوائد العميمة المرتقبة مسيحياً و«قواتياً».

لذلك، بعضُ المحيطين بعون صامت. بعضهم ينتظر من بري أن يتولّى المهمة التي يتمناها، أي تعطيل الانتخاب، وبعضهم يدرك أن «لا حَوْلَ ولا»...

ليس واضحاً إذا كان الحريري مقتنعاً بأنه قادر فعلاً على تمرير انتخاب عون أو أنه يقوم بمناورة سياسية يحتاج إليها. في الحد الأدنى، إذا لم يتم انتخابُ عون، سيكون الحريري قد شغل الوسط السياسي بحراك جديد أثبت فيه أنه موجود وأنه قادر على لعب العديد من الأوراق والمساومة. فالاستحقاقات المقبلة كثيرة، وأبرزها الانتخابات النيابية والقانون الذي سيرعاها.

ويعتقد البعض أنّ الحريري بطرحه عون، متجاوزاً التفاهم مع بري إنما أراد مفاوضة رئيس المجلس على الخيارات المقبلة، نيابياً وحكومياً، وليس على رئاسة الجمهورية. فقلائل هم الذين يصدِّقون بأنّ هناك مستعجلين إلى هذا الحد على الانتخابات الرئاسية.

ولا أحدَ يفهم لماذا يضحّي الحريري بروحية التفاهم المذهبي ضمن التحالف الرباعي إكراماً للرئاسة المارونية أو للرئيس الماروني. وما الذي يدعو الحريري إلى استعجال القيام بذلك عندما يكون مجلس الوزراء، برئيسه السنّي المحسوب على «المستقبل»، هو الوريث الدستوري للرئيس الغائب حتى إشعار آخر؟

ويتردّد لدى البعض أنّ مبادرة الحريري ربما تعبّر عن معاناةٍ يعيشها على مستويات مختلفة. فهو يريد إنعاش موقعه داخل الطائفة السنّية وتيار «المستقبل» واللعبة السياسية المحلية عموماً. فالمبادرة تفتح الآفاق له لكي يستعيد ديناميّته المفقودة في اللعبة الداخلية... على أمل أن تمهِّد للعودة إلى السراي.

كثيرون في الأيام الأخيرة قالوا للحريري: أنت تساعد عون على الوصول إلى بعبدا ضمن معادلة ثنائية معك، لكنك لا تضمَن إطلاقاً وصولك إلى السراي. فعندما يصل عون سيتذكّر تموضعَه الحقيقي، في المحور المقابل، وسيتصرف على هذا الأساس.

وافتراضاً أنّ عون أجرى «صفقة» ثنائية مع الحريري، فمَن يضمَن أن تأتي المشاورات النيابية الملزمة به إلى السراي، فيما «حزب الله» وحلفاؤه في «8 آذار» يجزمون أنهم سيقفون في وجه وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة؟ وفي أيّ حال، إذا جرى تكليفه وبدأ بتشكيل الحكومة، فكيف ستكون تركيبتها؟ وهل سيبقى الحريري رئيساً مكلَّفاً إلى أن تحصل الانتخابات النيابية في الربيع المقبل؟

وإذا اقتضت الصفقة تمرير هذه الانتخابات وفق قانون جاء بغالبية لفريق «8 آذار»، فكيف يضمَن الحريري أن يتمّ اختيارُه رئيساً للحكومة الموعودة؟ وكيف ستكون تركيبتها في حال تكليفه تشكيلها؟

بعض القريبين من الحريري يحذرونه من «شراء السمك في البحر»! وهذا ما عبَّر عنه في إعلان ترشيحه عون، معترفاً بأنّ ما يقوم به مخاطرة
وتضحية بنفسه وشعبيته. لكنه على رغم ذلك، أبدى إصراراً على تسمية عون. ربما هو يريد من التسمية مناورة سياسية ورمي الكرة في ملعب «8 آذار».

لكنّ المهارة السياسية تقتضي أن يطلب الحريري من هذا الفريق أن يحسم تسمية مرشح واحد له، بدل تلاعبه بخيارات عدة في الصف الواحد. وتكون مناورة الحريري ناجعة لو طلب من «8 آذار» حسم خياراته قبل أن يقوم هو بتسمية عون لا بعدها. وقد أبلغ الحريري بعض القريبين منه أنه سيسمّي عون، على رغم كلّ المعطيات والمحاذير، وقد فعل ذلك.

لا يفهم هؤلاء لماذا. لكنّ بعضهم يتفهَّم. فالرجل «مزنوق» فعلاً. ويقولون: تذكروا الانتخابات البلدية الأخيرة. في بيروت فازت لائحة الحريري بصعوبة، وفي طرابلس انتصر اللواء أشرف ريفي، وظهرت ملامح عدة غير مريحة في مناطق مختلفة.

وثمّة كلام يتداوله البعض عن مواقع نفوذ مختلفة يعمد العديد من كوادر «المستقبل» إلى بنائها، في غياب رأس الهرم. وهناك كثيرون «يَسنّون أسنانهم» لوراثة الحريرية السياسية، بدءاً بموقع رئاسة الحكومة. ويبدو أنّ الحريري لا يجد سبيلاً ليقول: «أنا هنا» إلّا بقلب الطاولة والأوراق على الجميع!

ولكن، بالنسبة إلى «الجنرال» ليست تسمية الحريري هي الهدف. إنها هي وسيلة لبلوغ الهدف. وكلمة السرّ الحقيقية لا يملكها الحريري، بل «حزب الله» الصامت عميقاً.

إنه الامتحان في 31 تشرين. وفي الامتحان سيُكْرَم المرء أو يُهان. ولا يريد «حزب الله» في أيّ شكل أن يتعرّض حليفه المسيحي، بعد كل ما قدّمه له ويقدّمه، لاحتمال أن يُهان، خصوصاً إذا حصل السيناريو الذي يخشاه الجميع، أي وقوع منازلة بين عون وسليمان فرنجية وهنري حلو تنتهي بصدمة غير محسوبة ولا يستطيع أحد أن يتحمّل تداعياتها. والأقنعة التي يرتديها كثيرون لا تجعل هذا الأمر مجرّد سراب.

قلائل يصدّقون أنّ الحريري يتحدّى بري باختيار عون، رغماً عنه. وقلائل يصدّقون أنّ بري يزعِّل «حزب الله» في خياره الرئاسي. وقلائل يصدّقون أنّ الحريري وسائر قوى «14 آذار» متحمسة أو مقتنعة بإيصال عون أو فرنجية لتمضية ست سنوات على رأس السلطة.

والجميع يدركون أنّ «حزب الله» لن يصطدم لا بشريكه الشيعي الذي لم يختلف معه يوماً «لا على الحلوة ولا على المرّة»، ولا بحليفه المسيحي. وهذان الاصطدامان يتجنّبهما «الحزب» المعروف بدقّة قراءاته وحساباته، أيّاً كان الثمن. ولذلك، يصعب جداً، في المدى المنظور، أن يتّجه «حزب الله» إلى واحد من خيارَين: بري أو عون.

قد تكون هناك مفاجآت رئاسية إيجابية بالنسبة إلى عون، لأنّ من الصعب أن يتحدّاه المعارضون ويرفضونه بعد حصوله على دعم رسمي من قوى أساسية متنوّعة طائفياً وسياسياً: «حزب الله»، الحريري، «القوات» وسواهم.

ولكنّ خيار الهروب وارد، خصوصاً في ظلّ عدم وجود تغطية إقليمية ودولية على الأرجح. الهروب من استحقاق 31 تشرين الأول ربما أو تهريب الأوراق والإشارات والرسائل من تحت الطاولة وخلف الستارة. ومن دون شك، إنّ الشغل الشاغل للجميع هو الخروج من «الورطة». والترقّب هو السيِّد المطلق.

إنّ قبَّعة «الجنرال» تحلِّق اليوم في الفضاء... وعندما تعود إلى الأرض سيكون لكلّ حادث حديث!