حتى الآن، الأمر الوحيد المؤكد هو أنّ الرئيس سعد الحريري يتّجه جدّياً إلى تبنّي ترشيح العماد ميشال عون. ويبقى الموعدُ قيدَ التحضير. أما الكلام الذي قاله الوزير علي حسن خليل عن حضور «جلسة عون» فالأبرز فيه: إننا أمام ثنائية مارونية- سنّية كالتي قامت في 1943، وسنواجهها! ولذلك، جاء الردُّ غاضباً من الرابية.إذا كان الرئيس نبيه برّي سيواجه ثنائية عون- الحريري، فمَن يتصوَّر أنّ «حزب الله» سيختار السير إلى جانب هذه الثنائية، ضدّ بري؟
الأوضح هو أنّ الوزير السابق وئام وهّاب الذي حسم الأمر بالقول: «عون رئيساً للجمهورية»، هو نفسه قال قبل يوم واحد عن الحريري كلاماً لا يبشّر بالتسوية.

والقريبون من سوريا لا يقولون كلمة دعم لعون أو للنائب سليمان فرنجية، لكنهم يقولون في الحريري كلاماً كبيراً. وقد لا يكون ذلك مدعاة استغراب في ظلّ الاشتباك السعودي- الإيراني العنيف.

إذاً، بدأت الاحتفالاتُ في الرابية... ولكن، ليس في «بيت الوسط» أيضاً؟ فهل حصل الحريري على ضمانات بأن يكون رئيسَ حكوماتِ العهد؟ ومَن هو الضامن؟ السعودي أم الإيراني أم الأميركي أم الفرنسي الذي يدور موفدُه جيروم بونافون على مقربة من الملف الرئاسي ولا يدخله...

بعض المتابعين يقولون: ربما أدرك الإيرانيون أنّ عون «الانقلابي» الطباع هو أكثر المتحمّسين للانتقام من «الطائف» الذي أزاحه من بعبدا. وبذلك، هو سيفتح البابَ للمؤتمر التأسيسي، في مرحلة إعادة رسم الخرائط في الشرق الأوسط.

لكنّ هذه النظرية ينسفها موقفُ الوزير علي حسن خليل الذي يحذِّر من العودة إلى ثنائيةٍ مارونية- سنّية. فـ«حزب الله» سيكون إلى جانب برّي طبعاً في هذه المعركة، وكذلك لن يجرؤَ النائب وليد جنبلاط على التموضع في ثنائية تستفزّ الشيعة.

وثمّة مَن يقول: هناك كيمياء مفقودة بين عين التينة والرابية يجدر خلقها لتمرير التسوية، ليس بين بري وعون فحسب، بل بين بري وجبران باسيل أيضاً، لأنّ عون في القصر سيقوم بأداء المهمات الرئاسية اليومية المرهقة ثمّ يخلد إلى الراحة، فيكون رجل الظلّ الذي يتابع الملفات ويبتّها هو باسيل. ويقول البعض كاريكاتورياً «سيكون باسيل نصفَ رئيسٍ للجمهورية في عهد عون».

هل يعني هذا التحذير أنّ جلسة 31 تشرين الأول ستنتهي كسابقاتها بسبب الهواجس الشيعيّة، وأنّ على عون أن ينتظر إنضاج ظروف أخرى؟
أبلغ الحريري أمس زوّارَه بأنه حسم أمره في تبنّي ترشيح عون، لكنه لم يقل شيئاً عن فرنجية وكيفية تعاطيه مع ترشيحه، علماً أنّ القطبَ الزغرتاوي يصرّ على الاستمرار في المعركة ومنازلة عون في أيّ جلسة. لكنّ القريبين من عون يعتبرون أنّ كلّ هذا الكلام لا يعدو كونه تفاصيل، وأنّ القرار بانتخابه متَّخَذ.

أما في «بيت الوسط»، فلم يرْشح ما يُوحي بارتياح مماثل بعودة الحريري إلى السراي. ويخشى بعض الأوساط «المستقبلية» أن يتمّ استدراجُ الحريري إلى تنازل تلوَ التنازل، من دون أن يصل إلى السراي.

في البداية، اندفع الحريري إلى التخلّي عن خيارِ مرشح «14 آذار» للرئاسة، لأنّ المعادلة التي ارتسمت أمامه هي: إذا كنتَ تريد رئاسة الحكومة، فعليك أن تتخلّى عن رئاسة الجمهورية. فالمعادلة تقضي بتوزيعٍ «عادل» للمواقع الأساسية: «14 آذار» لرئاسة الحكومة و»8 آذار» لرئاسة الجمهورية. وأما رئاسة المجلس النيابي فهي خارج المساومة.

تخلّى الحريري عن الدكتور سمير جعجع من دون مقدمات، وتجاوز الرئيس أمين الجميل، وذهب إلى فرنجية لأنّ المصلحة تقتضي ذلك. ردّ جعجع بمفاجأة أكبر: تبنّى ترشيحَ عون. وهكذا جرى إحباط معادلات عون وفرنجية كلها، على طريقة أبي نواس: «خَيْرُ هذا بِشَرِّ ذا، فإذا اللهُ قد عفا».

واليوم، يستعد الحريري لتجربةٍ أخرى. تعالوا معاً إلى عون. لكنّ خروج الحريري من فرنجية يتمّ كخروجه من عون، أي من دون مقدمات. وقد لا تكون حظوظ عون- إذا سمّاه الحريري- أفضل من حظوظ فرنجية في دخول قصر بعبدا.

في «8 آذار»، الجميع سيُصابون بالإحراج إذا فعلها الحريري وسمّى عون. برّي أقل المحرَجين لأنّ موقفه واضح. أما الشريك «حزب الله» فهو الأشدّ إحراجاً. وربما يدرك عون هذا الأمر، ولذلك هو يمضي في اللعبة «ببراءة» لعلّه يدفع حليفَه الشيعي الأقرب إلى خيار اضطراري.

لكنّ احتمال شعور «الحزب» بالإحراج ليس واقعياً على الإطلاق، إذ هو يمتلك كاملَ الأوراق التي تسمح له برسم المخارج من خلف الستارة بلا أدنى صعوبة. وهناك عناصر تؤدّي إلى إحباط تسوية عون- الحريري ربما تظهر من خلف الستارة.

لا يمكن لـ«الحزب» أن يعلن رفضه لوصول عون. لكنه يستطيع إحباط ذلك في شكل غير مباشر، من دون استثارة عون، لمجرد خوضه مواجهة ضد وصول الحريري إلى السراي. فهذه المواجهة ربما تؤدّي إلى إسقاط التسوية بكاملها.

كما يمكن لـ«الحزب» أن يطالب عون بحلّ مشكلاته مع فرنجية قبل عقد جلسة الانتخاب. وكذلك مشكلاته مع بري، لأن من غير المناسب خلق تباين داخل الثنائي الشيعي بسبب رئاسة الجمهورية. وإذا أصرّ بري على موقفه من عون، فسيكون ذلك بالتأكيد عائقاً أمامه. ولا يمكن هنا إهمال الموقف الذي سيرسو عليه جنبلاط.

يعني ذلك أنّ الوسائل التي يمكن أن يستخدمها حلفاء عون لإحباط «طبخة» وصوله والحريري إلى السلطة مباشرة وموارِبة. فإذا جرى اليوم إحباط مسعى الحريري إلى إيصال مرشحه الماروني الثالث إلى الرئاسة، أي عون، بعد جعجع وفرنجية، فسيجد نفسه أمام حائط مسدود، إذ لا خيارات ستبقى أمامه سوى طرح الرئيس الوسطي من خارج دائرة الأقطاب المسيحيين الأربعة. وعندئذٍ سيكون في مواجهة مع القوى المسيحية كافة، لأنها ستتّهمه باختيار «المرشح المسيحي الضعيف».

إذاً، كيف يستطيع الحريري وقفَ تنازلاته المتتالية، التي يريد من خلالها العودة إلى السراي والإمساك مجدداً بالقواعد السنّية؟

بعض الأصوات داخل «14 آذار» تقول: لقد أدّت سياسة التساهل التي اعتمدها الحريري إلى جعل القرار في الملف الرئاسي بكامله في يد فريق «8 آذار». والحلّ يكون بأن يعيد الحريري خلط الأوراق وأن يريح فريق «14 آذار» من المسؤولية ويرمي الكرة في ملعب «8 آذار».

عملياً، في إمكان الحريري أن يحقق هذا الهدف بالطلب من فريق «8 آذار» أن يقوم أوّلاً باعتماد مرشح واحد للرئاسة، فيختار إما عون وإما فرنجية، من ضمن التفاهم داخل الخط السياسي الواحد. وبعد ذلك، يصبح سهلاً على الحريري أن يعلن دعمه هذا المرشح وإنجاز تفاهم معه، ما دام موافقاً مبدئياً على المرشحين عون وفرنجية!

في هذه الحال، سيكشف الحريري إذا كان فريق «8 آذار» يناور رئاسياً لمجرّد الحصول على تنازلات منه. وعندئذٍ، يعود «الستاتيكو» الرئاسي إلى ما كان عليه قبل الدخول في «الانقلابات»، فيكون هناك لفريق «8 آذار» مرشحه الواضح (ربما يكون عون أو سواه) ولفريق «14 آذار» مرشحه الواضح (ربما يكون جعجع أو سواه).

وبعد ذلك، تتمّ الصفقة السياسية بين الفريقين على مرشح واحد. وإذا شاء فريق «14 آذار» أن يتبنّى عون، فإنه يفعل ذلك مقابل تفاهمات ثنائية تأخذ وتعطي. ويعتقد المتابعون أنّ فريق «8 آذار» سيرفض هذا المخرج إذا طرحه عليه الحريري لأنه سيصيبه بالإحراج.

في الأيام المقبلة، سيكون الحريري أمام استحقاق حاسم يُقرّر مصير فريق «14 آذار» بكامله: هل يحصل على ضمانات لعودته إلى السراي في حكومات «العهد العوني» أو لا، ومِمَّن؟ وكيف سيضمن تمثيل قوى «14 آذار»، ولاسيما «القوات» والكتائب إذا وقف «حزب الله» معارِضاً هذا التمثيل؟

إذا نجح الحريري في تحقيق ذلك، فستكون لفريق «14 آذار» نصف هزيمة بانتخاب مرشح «8 آذار»، وأما إذا تمّت التسوية على عون بلا ضمانات للحريري فهزيمة «14 آذار» ستكون نموذجية... وأكبر من كلّ الهزائم المتسلسلة منذ 2005!