لا تفارق ذاكرتي تلك الصورة على غلاف مجلة البلاغ والتي تجمع المرحوم والدي (السيد علي مهدي ابراهيم ) والى جانبه صديقي الذي لم نكن لنفترق أحدنا عن الآخر سواء في النجف او في لبنان ، المرحوم اسيد هاني فحص، حيث استوقفتني تلك المجلة لأتلقّفها من غير تردد من مكتبة  على مدخل السوق الكبير المفضي الى مقام أمير المؤمنين (ع) ، حيث كنت أتوقف أمامها كلما دخلت في هذا السوق لأتصفّح عناوين الصّحف والمجلّات اللبنانية التي غالباً ما كانت تصل متأخّرةً بضعة أيّام من تاريخ صدورها. 
أذكر أني سارعت في العودة إلى البيت وقد أخفيتها في الجيب الداخلي لجبّتي لأطّلع على ما تحتويه ذلك لأنّ رؤية مجلّة سياسيّة بين يَدَي طالب علوم دينيّة أو الجلوس في صحن مقام أمير المؤمنين والقراءة في مجلّة أو جريدة، كان يعتبر عملاً مستهجناً وغير مقبول من طالب علم ديني معمّم، قد تؤدّي به إلى النبذ والإقصاء. 
لم يكن مفاجئاً لي موقف الوالد رحمه الله، فقد كان هذا دأبه وتاريخه منذ أن قدم إلى لبنان في بداية الخمسينيّات من القرن الماضي، مجاهداً صلباً في كل القضايا التي يرى أنّ فيها ظلماً على المستضعفين من أهلنا، سواءً في القضايا القوميّة والإسلاميّة كقضيّة فلسطين، أم في القضايا التي تمسّ حياة الناس ولقمة عيشهم ومستقبل أولادهم. 
وهذا هو تاريخ المرحوم السيد هاني فحص، الذي كان متأثّراً بسلوك وآراء السيّد علي ابراهيم، فكان انخراطه في انتفاضة مزارعي التبغ ترجمة عملية لهذه القناعات. 
لقد كان السيّد هاني حديث عهد في القدوم إلى لبنان عندما حدثت ثورة المزارعين، لذلك كان من الطبيعي والمنطقي أن يتوجّه إلى رجل دين أو عالم كبير وله موقعه المرموق في وجدان الجنوبيين، وله حضوره الديني والإجتماعي، وكان السيد هاني من خلال صداقتنا قد تعرّف إلى الوالد الذي كان يتردّد إلى الزيارة في النجف، أو يلتقيه في زياراته إلى لبنان لقضاء فصل الصيف، حيث تأثّر به من خلال هذه اللقاءات وكان كثيراً ما يخاطب الوالد قائلاً : " لأنّه إن كان السّيّد كاظم هو ابنك الطّبيعي فأنا أشعر بأنّني إبنك الثاني الروحي وفعلاً فقد تعمّقت الصداقة بيننا إلى مستوى الاخوّة .
لقد كان العلامة السّيّد علي مهدي ابراهيم السّبّاق من بين رجال الدين الذين هم منه وعليه إلى نصرة قضايا المظلومين ضدّ ظالميهم، ابتداءً من الشّعب الفلسطيني، ومروراً بالظلم اللّاحق بالجنوبيين من قبل دولتهم ومن قبل من كانوا يمثّلونهم في المجلس النّيابي أو الحكومات المتعاقبة آنذاك، الذين ما زالت حملاته التي كان يشنّها عليهم من على منابر الجنوب يتردّد صداها إلى اليوم ماثلةً في ذاكرة الذين ما زالوا على قيد الحياة من العاملين. 
فلا عجب إذن أن يتوجّه المرحوم السيّد هاني إلى عدلون ليحثّ السيّد على المشاركة في هذه الإنتفاضة التي لم يكن بحاجة إلى التحريض لكي يتحمّس للمشاركة فيها وليكون أحد أبرز قادتها. 
من خلال ما قدّمت أراني مندفعاً للكلام حول دور رجل الدين الذي يجب أن يأخذ به منهجاً بين أهله ومجتمعه، حيث أصبح في هذا الزمن الرّديء يرمز إلى التعصّب والتحريض على نبذ الآخر واقصائه، أو حتى الإفتاء بجواز استباحة دمه وخصوصاً عند قادة الفكر التكفيري ورجال دينهم، هذا بالإضافة إلى نشر الخرافات والأخبار التي لا أساس لها من الصّحّة ولا يقبلها عقل ولا منطق، حول واقعة عاشوراء وغيرها من قبل القسم الأكبر من قرّاء المجالس الحسينيّة. 
كل هذا يحدث بدل أن يكون دورها هو حمل هموم الناس في لقمة عيشهم ومستقبل أبنائهم.
إنّ دور رجل الدين كان وما يزال هو ما غرسه السيّد علي مهدي ابراهيم في وجداني ووجدان كل من عرفوه كالسّيّد هاني وآخرين وعايشوه وتأثّروا بنهجه وأفكاره ومواقفه هو نهج علي والحسين (ع)، لا تأخذه في الحقّ لومة لائم، حيث أن طريق علي والحسين (ع) هو إقامة العدل والوقوف في وجه الظلم والطغيان والفساد ونهب المال العام من قبل قلّة حاكمة.
أيّها الإخوة .. 
وإنّه لمن حسن المصادفات أن تقام هذه النّدوة في أيام عاشوراء وهي كما تعلمون مناسبةٌ يتصدّرها ويقودها رجال دين بشكل عام. فما الذي تغيّره هذه المجالس في واقعنا المعيشي والإجتماعي والتي يحتشد من أجل انجاحها أعدادٌ غفيرة من المؤمنين يحلم أكبر الأحزاب وأعرقها أن تتوفّر له مثل هذه الحشود التي تندفع من غير أن تنتظر ثمناً أو أجراً دنيويّاً على المشاركة فيها، 
ومن هنا أقول أن دور رجال الدين الذين يقودونها هو تحريض هؤلاء الناس المؤمنين والطّيّبين على المطالبة بحقّهم في حياة كريمة تخرجهم من واقع الجهل والفقر والتّخلّف الذي يقاسونه إلى وعد بمستقبل أفضل عبر دولة عادلة تعمل بإخلاص وشفافيّة في سبيل الخير العام. 
نحن نقيم هذه الذّكرى في كل عام، ونحشد لها كل الإمكانات من أجل إنجاحها ولكنها تحوّلت إلى احتفاليّة استعراضيّة نكرّرها في كل عام من غير أن تغيّر أو تصلح أو تجدّد في واقعنا شيئاً. مع أنّ الحسين (ع) كان يردّد باستمرار أنّ الهدف الأساس من ثورته هو الإصلاح في الأمّة، ممّا يعني أنّ الفساد قد عمّ على يَدَي الحكّام الأمويّين، حيث اتّخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولا، أي أنّ المال العام غدا ملكاً يتداوله أبناء المسؤولين والحكّام وأزلامهم من المتزلّفين والفاسدين، وهل يوجد فساد ونهب للمال العام، واعتداء على ممتلكات الدولة أكثر مما نحن فيه اليوم في لبنان. فلماذا لا يأتي هؤلاء الخطباء، ولا ترفع هذه المسيرات الضخمة التي تسير بإسم الحسين ومظلوميّته، على ذكر ما يجري من فساد وأفكار وانهيار في جسم الدولة حتى لقد غدونا على حافة الهاوية التي لا قيامة لنا بعد السقوط فيها. 
ثم إنّ الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه قد جعل بينهم ماء الفرات حتى استشهدوا عطاشى. 
وها هي الأكثريّة من أبناء الشعب اللبناني ينظرون إلى مياه أنهارهم بعين الحسرة بسبب ما يتم من عدوان وحشي وهمجي على مياه الوطن بتلويثها وجعلها غير صالحة لأي استخدام بشري أو حيواني أو حتى نباتي زراعي، ولا أحد يرفع صوته ليعلن غضبه وثورته، دلّوني على بيت واحد في بيروت وضواحيها، بل في كل قرى ومدن لبنان لا يشتري ساكنوه الماء للشرب والطعام، وأما غسل الثياب والأواني والأجساد فيرضى أكثر أبناء الضاحية الجنوبية بالماء الأجاج الملوّث مستخرجاّ من آبار جوفيّة اختلطت فيها مياه البحر بمياه الصرف الصحي .
 ولكم تمنّيت أن ينطلق شعار واحد من هذه المسيرات الضخمة يوم العاشر من المحرّم تطالب الدولة بمياه عذبة لهؤلاء الفقراء المفجوعين بشهادة الحسين (ع) ومن معه يقتلهم العطش.
أجل إنّه التنويم والتغييب عن مطالب الناس وهمومهم الأساسيّة برفع شعارات لا تغيّر من واقعنا البائس شيئاً.
رحم الله الصديق والأخ الحبيب أبا حسن، حيث كان له في تلك الثورة المباركة لمزارعي التبغ سواء فيما بادر به باستنهاض همة الوالد رحمه الله ليشارك في بداياتها واستمرّ بعد ذلك العمل والنضال من أجل تحقيق مطالب المزارعين المشروعة. 
وعندما جاءت الحرب الأهلية عام 1975 وجدت الدولة المبرّر لها لتستقيل من مسؤولياتها في شراء محاصيل التبغ التي راحت تتكدّس في أقبية بيوت المزارعين يهدّدها التلف والبوار فكان السّباق إلى الإنطلاق نحو الدّوَل الغنيّة لإقناع مسؤوليها بمساعدة الجنوبيين من خلال شراء محاصيلهم. و ما زلت أذكر ما كان يحدثني عن كثير من معاناته وشقائه وتعبه في سبيل ذلك سواءً في العراق أو في ليبيا في ذلك الحين.
أخيراً أختم مقالتي هذه بواحدة من ذكرياتي مع السيّد هاني في النجف حيث دعانا أحد الأصدقاء المشتركين من كلّيّة الفقه التي كان يدرس فيها طلبة علوم دينيّة معمّمون وطلّاب آخرون غير معمّمين كانوا ينتسبون إلى هذه الكلّيّة التي تمنحهم شهادة باكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلاميّة تخوّلهم الدخول في سلك التعليم الثانوي في مدارس العراق. دعانا هذا الصديق الذي نسيت اسمه الآن إلى بلدته القريبة من النجف وهي قرية ريفيّة أهلها من الفلّاحين وكان والد هذا الصديق مزارعاً كغيره من أبناء بلدته. وهناك في منزل هذا الصديق إذا بنا نسمع السيّد هاني يهتف من أعماق روحه : " يا الله ... يا سلام ... واقتربنا منه لنراه يمسك بخيطان تبغ مجفّف محفوظ في احدى غرف المنزل ويضمّها إلى صدره ويشمّها بكل جوارحه وكأنّه يلتقي بحبيبته بعد طول غياب. وقد أخذ الزملاء النجفيّون يرمقونه باستغراب لم يعتريني لأنني كنت أعرف ماذا تعني له هذه الرائحة المحبّبة رائحة التبغ المجفف والمعلّق في أسقف البيوت في الجنوب وهي بالنسبة للسيّد هاني رحمه الله كانت جبشيت، وكانت تعب وشقاء أبيه وأمّه وشقيقته وعرقهم وعملهم طوال أيام السّنة للحصول على لقمة عيش كريم مغمّسة بالعناء والسّهر .. 
أذكر أنني قلت له يومذاك، خيطان التبغ هذه ورائحته في أرص العراق هي بالنسبة لك كتلك النخلة التي أثارت حنين وشجون صقر قريش في أرض الأندلس، أو إذا شئت هي كحبيبة السّيّاب التي خاطبها وهو غريب على الخليج و ليك أن تخاطبها مع الإعتذار من السّيّاب
لو جئت في البلد الغريب إليّ ما كلَّ اللقاء 
الملتقى بك والجنوب على يديّ هو اللّقاءُ 


السّيّد كاظم علي ابراهيم 


الكلمة ألقيت في ندوة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي حول دور العلامة هاني فحص في دعم اتفاضة مزارعي التبغ في الجنوب وتأتي في الذكرى الثانية لرحيل العلامة فحص .