«الحرب» في سوريا، من نوع «الحروب المركبة» التي كل حرب فيها تخفي أكثر من واحدة، وهي تتوالد بسرعة المتغيرات وتقلبات موازين القوى. تبقى الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الطرفين اللذين تُبنى حولهما ومعهما التحالفات وتحديد الأوزان، في وقت، التنافس والتزاحم بينهما مستمران دون الانزلاق إلى خط المواجهة الأحمر.

على المقلب الإقليمي، تكاد تركيا وإيران، تتمثلان بالكبيرين الدوليين. فهما قبل سوريا وبعدها، لن تتوقفا عن التزاحم والتنافس بحكم التاريخ والجغرافيا والمصالح، لكنهما سيبقيان على مراعاتهما عدم الانزلاق ولو في لحظة غضب، إلى المواجهة المباشرة.

في سوريا، تركيا لاعب وازن لا يمكن تجاهله في الحرب والسلم، فهو موجود على الأرض بقوة تتزايد وتتمدد يوما بعد يوم. لكن تركيا تبقى لاعبا غير قادر على الحسم وحده، وهو معلق لا يمكنه الانفصال عن تحالفه مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا التحالف الكامل مع موسكو وفي الوقت نفسه عدم الاستعداء الكامل. تجربة إسقاط طائرة السوخوي الروسية، أضاءت لأنقرة حدود قدراتها، وفي الوقت نفسه لموسكو عدم قدرتها على تجاهل تركيا سواء في انتشارها أو انكماشها اذا اضطرت.

تركيا، وهي على الضفة الأخرى في سوريا مع إيران؛ لأنها ترفض بقاء الأسد إلى الأبد، في حين أن إيران جعلت من بقاء الأسد خطا أحمر اذا كسر انهارت كل استراتيجيتها القائمة على التمدد إلى قلب القرار في عواصم «الهلال الشيعي»، وامتدادا إلى باب المندب. لكن المسألة الكردية المشتركة جعلت كلا من أنقرة وطهران ضدين يخدم أحدهما الآخر، حتى لا توضع وحدة أراضيهما وامنهما القومي في مهب التغييرات المطروحة، خصوصا في قيام أقاليم كردية على طريق «دولة كردستان الكبرى».

الانقلاب ضد الرئيس رجب طيب أردوغان، قوّى التعاون الإيراني التركي. إيران اختارت اللحظة المناسبة وقدمت دعما مفتوحا لأنقرة أردوغان. التعاون التركي الإيراني مستمر ونام، ولكن تحت السقف الأمريكي - الروسي. تركيا الحليفة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لم «تخسر كثيرا» من الدخول الروسي إلى الميدان السوري. بعكس إيران التي خسرت كثيرا، لأن الدخول الروسي سحب من «كيسها» مهما بلغ التعاون بينهما.

طهران هي التي طلبت من موسكو التدخل أولا، وهي التي عرضت عليها استخدام قاعدة همدان الجوية. هذا الطلب أكد أن إيران أيقنت عدم قدرتها على الحسم، لا بل الخوف من الهزيمة. «القيصر» الروسي، عرف كيف يقنص اللحظة التي قدّمتها له الحرب في سوريا. فنزل وتمدّد في سوريا على حساب «المرشد». كان الأخير يحتكر علاقة الشراكة والتوجيه مع الأسد، فاذا بالروسي يقاسمه كل العلاقات الميدانية والسياسية والأمنية؛ لأنه لا توجد علاقة أحادية الجانب. كل شيء أو لا شيء تكون العلاقات أو لا تكون.

لكن التراجع الإيراني لمصلحة موسكو، لا يحول دون الحاجة إلى طهران من موسكو وحتى واشنطن. طهران تعرف كيف تدير «التدخل السلبي»، بحيث لا يمكن ائتمانها على شيء اذا لم تأخذ حصة لها فيه. أي اتفاق يتم التوصل إليه في المستقبل، يجب أن تضع إيران بصمتها عليه، لأنها قادرة على تعطيله وتحويل الاتفاق إلى خراب..

في قلب عملية الشد والجذب بين القوى الكبرى والإقليمية، يقع حزب الله. يستطيع الحزب إكمال الحرب رغم خسائره التي تجاوزت خسائره مع إسرائيل حتى الآن. لكن لا يمنعه هذا من الرغبة في تهدئة تساعده على الاستمرار في الجبهة السورية دون التراجع. «حزب الله« وهو مستمر في سوريا من دمشق إلى حلب، لا يتحمّل الهزيمة وهو يرفضها، لكنه يقبل بتسوية معقولة تبقي الأسد لولاية رئاسية واحدة، ولو عبر انتخابات عامة. خلال هذه الولاية يمكنه إعادة ترتيب وضعه وأوراقه، خصوصا أن أي حل سياسي في سوريا لن يعني سوريا فقط وإنما المنطقة كلها.

ويبقى في كل ذلك مستقبل بشّار الأسد. يعترف القادمون من دمشق أن المشكلة الكبيرة التي يعانيها السوريون هي المشكلة الاقتصادية، وهي تتمظهر في:

- نظام فاسد ومتعفّن من فوق إلى تحت؛ بسبب الرشاوى والسرقات وشعور العاملين في النظام، بضرورة الحصول بكل الطرق على أقصى ما يمكنهم لأن الغد غير مضمون لهم.

- غلاء متصاعد وغير مقبول في ظل انهيار مستمر لليرة السورية، ما يجعل محدودي الدخل تحت الخط الأحمر للقدرة على العيش.

- هجرة مستمرة، خصوصا للشباب، والأخطر للكادرات منهم؛ ذلك أن الهجرة الأساسية والواسعة تتم في أوساط الأطباء والمهندسين والأساتذة الجامعيين، ولا شيء يضمن عودتهم إلى البلاد ولو انتهت الحرب.

- تفتّت المجتمع السوري بجميع مكوناته الاجتماعية. خصوصا ما يتعلق بتشكل العائلات وعلاقاتها الداخلية. أما أخطر ما يصيب سوريا المستقبلية فهو خَسارة أكثر من جيل لفرص العلم والثقافة والمعرفة، ما سيُعيد سوريا إلى بدايات القرن العشرين.

الحل السياسي ليس اليوم ولا غدا. أكثر الطروح تفاؤلا تؤشر إلى ما بعد عامين. سوريا «شهيدة» هذه «الحرب المُركّبة».