قال الرئيس نبيه بري إنّ ما سمعه في الجلسة الأخيرة من الحوار هو أخطر كلام منذ الحرب الأهلية. والتدقيق في المضمون الطائفي والمذهبي لوقائع الجلسة، سواء بالمواقف المعلنة أو تبادل المواقع والأدوار، في شكل مكشوف أو مستتر، يؤكد أنّ البلد قد سقط فعلاً في الانهيار الشامل. لكنّ هذا الانهيار يبقى تحت السيطرة، وممنوع الإعلان عنه رسمياً، إلى أن تأتي اللحظة التي تنضج فيها البدائل!

الصعوبات المالية التي تعاني منها شركة أوجيه، تُضاف الى تسريبات ومعطيات تهدف للضغط على الحريري لكي يقبل بالتسوية، بغض النظر عمَّن يتولّى رئاسة الحكومة، وعن كيفية تشكيل الحكومة، والبيان الوزاري وقانون الانتخاب.

أوردت كتلة «المستقبل» عبارة المرشح الوحيد لرئاسة الحكومة، فحاول نواب قلائل الاعتراض عليها بداعي أن لا لزوم لها، غاب مَن غاب وحضر مَن حضر، لكن الغالبية أقرّتها، وأكد معظم النواب أنّ رئيس تيار «المستقبل»، هو الوحيد المرشح لتولّي رئاسة الحكومة، وأنّ أيّ مسعى آخر هو اجتهاد شخصي لا يحظى بأيّ غطاء ولا يمتلك أيّ مشروعية، وبات السقف الوحيد للتعاطي مع ما يُطرح من تسويات محدَّداً وفق معايير لن يمكن لأحد أن يتخطاها.

كانت مثيرة جلسة الحوار الأخيرة: قبل انعقادها كانت تبدو المعركة بين الرابية وعين التينة، على خلفية السجالات بين الطرفين حول الملفات الساخنة. ولكن، بانعقادها تبدلت الصورة. وانكفأ الخلاف بين الرئيس نبيه بري و«التيار الوطني الحرّ» نسبياً، ليقع الانفجار بين «التيار» والنائب سليمان فرنجية.

رؤية «التيار» لِما جرى يعبّر عنها بعض الذين في الرابية بالقول: نعم، نحن تصادمنا مع فرنجية في الجلسة، لكن هذا الاصطدام هو البديل من الاصطدام الأصلي بيننا وبين الذين يرفضون الاعتراف بالتمثيل المسيحي والمعنى الحقيقي للميثاقية. وكان الأحرى بفرنجية ألّا يضع نفسه في المواجهة الخطأ.

فـ«التيار» لم يكن يرغب بالدخول في منازلة مسيحية- مسيحية حول الأحجام. والمشكلة التي يطرحها ليست بين المسيحيين بل بينهم وبين القوى الأخرى التي تتجاهل دورهم. وتحويل المواجهة إلى مسيحية- مسيحية يقدِّم أكبر خدمة إلى الذين يتعمّدون الاستمرار بهذا التجاهل.

ويهمس البعض في الرابية بأنّ هناك مَن دفع بفرنجية إلى الدخول في مواجهة مع الوزير جبران باسيل بمجرد تقديمه المداخلة حول الميثاقية، وقد انزلق فرنجية إليها وحوّل السجال مسيحياً- مسيحياً داخلياً بدل أن يكون فرصة لتصحيح الخلل في التعاطي مع المكوِّن المسيحي، والذي يشكو منه المسيحيون جميعاً بلا استثناء.

ويقول هؤلاء: كان هناك تنسيق فوق الطاولة وتحتها بين بعض الأطراف وتيار «المستقبل»، ومرّرا الكرة في ما بينهم للتنصّل من مواجهة الأزمة الحقيقية، أي عدم الاعتراف بالدور المسيحي، وعدم الإجابة عن الأسئلة المشروعة التي طرحها باسيل في الجلسة، والتي لا ينفكّ المسيحيون جميعاً عن طرحها في كل مناسبة. وكانت الخسارة مزدوجة:

- أولاً، بتفويت الفرصة السانحة لطرح الهواجس المسيحية كما هي.

- ثانياً، بتعطيل الحوار حتى إشعار آخر. وهذا ما يمنح القوى الراغبة في التهرّب من المسؤولية قدرة على تحقيق أهدافها.

يرفض هؤلاء العونيون الاعتراف أنّ عبارة 6 في المئة الواردة على لسان باسيل، والتي قدَّر فيها حجم تمثيل المسيحيين «الآخرين»، يمكن أن تستفزّ فرنجية إلى هذا الحدّ. كما يرفض هؤلاء أن يقولوا إذا كانوا يعتبرون «حزب الله» جزءاً من لعبة التنسيق أو لا. فحتى اليوم، لا تريد الرابية توجيه أيّ إشارة إلى «الحزب» بهذا المعنى. لكنها لا تخفي الشعور بأنّ «التيار» كان يقاتل وحده على الطاولة.

ويعتقد هؤلاء أنّ ما جرى في الجلسة الأخيرة من الحوار سينسحب على كل المحطات المقبلة. فالأزمة ستكون عميقة، ولا تبدو حلول في الأفق: لا في الحكومة ولا في جلسات انتخاب رئيس للجمهورية ولا في العقد التشريعي العادي للمجلس النيابي في تشرين الأول المقبل، أي أنّ الخريف اللبناني سيكون قاسياً على الأرجح.

في ضوء هذه المواقف والتوقعات، ثمة مَن يقول إنّ كل شيء يتقدَّم وفق ما هو مرسوم، أي إلى أن تبلغ الأزمة حدودها القصوى وتصل إلى حيث يضطر الجميع إلى القبول بإعادة النظر في المعادلة القائمة تقليدياً بين المكوِّنات اللبنانية، منذ العام 1943، والتي طرأت عليها تعديلات في «الطائف» عام 1989.

فالخطاب الذي عبَّر عنه «التيار الوطني الحرّ» في الحوار هو الأول من نوعه. ولم يُسمَع قبل اليوم صوت أحد الأقطاب المسيحيين يقول صراحة للشركاء المسلمين، ومن دون مواربة: «بَدّكن يانا أو ما بَدّكن؟». فهذا التلويح يعبِّر، في السياسة كما في علم النفس، عن رغبة مؤكدة في الطلاق... النفسي على الأقل!

وهذا المأزق هو الذي يتسبّب للقوى المسيحية عموماً، ومنها «التيار»، بأزمة ازدواجية في التعاطي مع الوقائع. فالمسيحيون لا يريدون الطلاق وطنياً، ولا يستطيعون تنفيذه أساساً لأنه محكوم بضوابط كثيرة، لكنهم أيضاً بدأوا يفجِّرون النقمة على الذين يستهدفون دورهم وحضورهم، من «ميثاقية النفايات» إلى ميثاقية المؤسسات!

وهذا الاحتقان المسيحي هو جزء من الوقود الذي به ستنطلق الاستحقاقات الكبرى في المرحلة الراهنة، ومنها ما يسمّى «المؤتمر التأسيسي» الذي سيكون الماكينة التي ستتولّى إنتاج عملية التغيير، بتأثير مباشر من التطورات الشرق أوسطية الجارية، والسورية تحديداً.

المهم بالنسبة إلى الجميع أن تبقى الأمور مضبوطة تحت السقف الأمني. وما «يُطَمْئِن» هو أنّ القوى المسيحية لم تعد تمتلك السلاح كما كان وضع «القوات اللبنانية» خلال الحرب، ولا قرار استخدام الرسمي كما كان وضع العماد ميشال عون. فالسلاح اليوم من اختصاص آخرين.

وعلى الأرجح، إنّ ما جرى على طاولة الحوار الأخيرة كان مدروساً ومدبَّراً لبلوغ النتيجة التي انتهت إليها. فليس سهلاً تبرير «حزب الله» وحلفائه عدمَ انتخاب عون رئيساً للجمهورية وعدمَ قيامهم بالجهد اللازم لإقناع فرنجية بـ»أن يزيح من الطريق هذه المرّة».

إذا طارت الاستحقاقات الخريفية كلها، فالاستحقاق الربيعي- أي الانتخابات النيابية- سيكون مهدّداً... إلّا إذا تقرَّر المضي بالانتخابات «بالتي هي أحسن وبمَن حضر»، أي بقانون 1960. وهذا الاحتمال واردٌ جداً إذا أصرَّت القوى الدولية المعنية على عدم الاستمرار في التمديد للمجلس النيابي، كما أصرّت أخيراً على إجراء الانتخابات البلدية.

الإنتخابات البلدية كانت ترفضها غالبية القوى غير المسيحية، القوية في السلطة، وكان يشجعها «التيار» و«القوات». وقد جرت هذه الانتخابات رغماً عن الرافضين. أمّا إجراء الانتخابات النيابية وفق قانون 1960 فيرفضه المسيحيون ويناسب القوى الأخرى. وقد تجري الانتخابات به، رغماً عن الرافضين.

أيّاً تكن الاتجاهات الآتية، فالواضح أنّ لبنان سيدخل مآزق وطنية كبرى، ذات طابع طائفي ومذهبي. ولن يكون ذلك مستغرباً لأنّ الصراع والتسويات في لبنان، بطبيعتها ونتائجها، لا يمكن أن تكون معزولة عن الوقائع التي يشهدها الشرق الأوسط.

لكنّ الفارق بين لبنان وكل من سوريا والعراق وسواهما ليس فقط في أهمية العنصر المسيحي، بل أيضاً في أنّ لبنان هو الكيان الوحيد الذي قام أساساً على تركيبة طائفية- مذهبية هي جزء من «شخصيته الوطنية».

وهذه الصيغة تُعبِّر عن فدرالية طوائفية، وشبه مناطقية، وإن كانت بدائية وغير قابلة للتطوير، وقد يكون مناسباً إصلاحها بدعم دولي بما يضمن لها الاستمرار. وهذا يقتضي أيضاً إصلاح الواقع السياسي.

في العام 2013، كتب روبرت فيسك في «الأندبندنت» البريطانية: «لن تبقى الدولة اللبنانية إذا زالت منها الطائفية. فنظام الحكم اللبناني يرتكز إلى خليط من الدين والسياسة هو هوية لبنان».