الزواج المدني...عذراً صاحب السماحة
في موقف صادم غير متوقع، علم "بالعربي" أنه فاجىء حتى الحلقة الضيقة المحيطة به، أطلق سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ الدكتور محمد رشيد راغب قباني فتواه المثيرة للجدل " كل مَن يوافق من المسؤولين المسلمين في السلطتين التشريعية والتنفيذية على تشريع وقوننة الزواج المدني، ولو اختيارياً، هو مرتدّ وخارج عن دين الإسلام، ولا يُغسل ولا يكفّن ولا يُصلّى عليه ولا يُدفن في مدافن المسلمين".
وقبل الدخول في مناقشة صاحب السماحة في طرحه، لا بد من الإشارة إلى أمر قد يخفى عن الكثير ممن لا يلمون بالفقه الإسلامي، والشريعة الإسلامية، وهي الفتيا ومعناها. فالفتوى لغة هي اسم مصدر بمعنى الإفتاء، وبصيغة الجمع الفتاوى والفتاوي، ويقال في اللغة أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألة، والفتيا تبيين المشكل من الأحكام. أما في اللغة الشرعية، فالفتوى شرعًا هي بيان الحكم الشرعي في قضية من القضايا جواباً عن سؤال سائل، معيناً كان أو مبهماً، فرداً كان السائل أو جماعةً . وهناك فارق شاسع بين الفتوى والحكم، فالحكم يصدر عن القاضي، وهو ملزم للمحتكمين، وينفذ قهراً، أما فتوى المفتي فغير ملزمة في المنازعات، وليس مجلسه مجلس إقرار،بل إن فتياه لا تتعدى المشورة وإبداء الرأي. ففتيا أي أحد، ليست نطقاً بالوكالة عن الخالق سبحانه وتعالى، بل رأي شرعي، يعتمد الاستمداد من الأدلة الشرعية، أي ما اجتمع عليه أهل الهدى، فإذا تعددت الأقوال، يأخذ بأرجحها، ويعتمد تحقيق مناط الفتوى أي تنزيل الفتوى على واقعها، فلا تساهل في غير محله، ولا تشدد في غير محله، ويعتمد التحري للإيضاح والتبيين، وخصوصاً قبل إصدار الفتيا، ويعتمد الاستفسار من المستفتي، وخصوصاً في الحيثيات والكيفيات والأطر،ويعتمد أيضاً الإعراض عما لا يفيد والإفتاء بما يفيد.
ومن واجب المفتي أيضاً، بحسب شريعة الرسول الأكرم (صلعم)، ألا يسرع بالفتوى، و أن يقول لا أدري إذا سئل عما لا يدري،وأن يحذر من الإفتاء في حال تشوش فكره، والمعروف شرعاً أن حالات التشويش من غضب أو عطش أو حزن أو نعاس أو ملل أو تعب شديد أو مرض ونحوها كلها تخرج عن حد الاعتدال. كما يجب بالضرورة التفريق بين مسائل الفتوى ومسائل القضاء، فالواجب وجوباً ألا يقع المفتي في البت في ما هو من شأن القضاء..
وقد اصطلح الجمهور الأعظم من أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، بضرورة التيسير في مواطن الخلاف، فالمنهج قائم على ضرورة تسامح المسلمين فيما بينهم فيما اختلفوا فيه. وما بقي، فهو واجب المفتي الحذر من الفوضى في الفتاوى، خصوصاً أن هناك ولعاً في العالم المعاصر بالفتيا، دون أن تدرس الأبعاد العلمية والمنطقية لتلك الفتيا.
استنادا إلى كل هذا السالف، نوجه مجموعة من الأسئلة، برسم اصحاب الفضيلة والسماحة، ممن جاهروا برفض طرح الزواج المدني، من المسلمين السنة، والمسلمين الشيعة، والمسلمين الموحدين"الدروز"، وخاصة سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية، الذي نكن كل التقير والإحترام لمقامه على رأس المؤسسة الدينية لأهل السنة في لبنان بغية تعميم الفائدة، والنشر والتوضيح، لأنه قد التبس علي، كما التبس على الكثيرين موقفه، مع أني واثق أنه لا يرتجي من كلامه إلا الصلاح والإصلاح، فالبعض قد أخذ من كلامه، وفسره في غير سياقه، وجعل منه مدخلاً للطعن على دين الإسلام.. نسأله، هل أصدر فتيا عن عدم جواز تشريع الزواج المدني الإختياري لجميع الناس، أم أنه فقط نصح المسلمين بعدم الزواج على الطريقة المدنية، لأن في هذا الزواج خروج عن السنة الصحيحة إلى غيرها؟ وفي الخروج ردة "ما" إن لم يتب الإنسان ويستغفر الله، علماً إن "ربكم يغفر ما دون الشرك به"...أم أنه قد أصدر حكماً، بأن من يتزوج مدنياً هو مرتد ومارق، فإن تكن الأخيرة، لا قدر الله، فقد حكم سماحته بردة أكثر من خمسمائة ألف مسلم في العالم تعتمد الدول التي يسكنون فيها الزواج المدني، فهل كل هؤلاء كفرة مرتدون، ونحن نعلم أن "من قال لأخيه المسلم يا كافر، فقد كفر أحدهما"...فهذا حال مذموم نعيذ سماحته منه بالله.أما إن تكن الأخرى، فسماحة المفتي قد نصح الملتزمين بالإسلام الحنيف باعتماد الزواج الإسلامي في العقد، لأن في ذلك اتباعاً لسنة الرسول الأكرم. ولم يتطرق إلى غير من يمثلهم. ولا يزايدن أحد على المفتي في احترامه مبادىء المساواة والحرية والكرامة الإنسانية، والأخوة والتسامح.
ومن وجه آخر، فأهل الهدى، والشيوخ السلف، كان لهم آراء متعددة في هذا الخصوص، ولعل من المفيد ذكر آراء مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر الدكتور محمد عبده رحمه الله، وإن ذهبنا في المدرسة الشيعية أيضاُ، فما قاله السيد محمد حسين فضل الله، يكفي ويزيد في ذلك.وفيما يتعلق بتحقيق مناط الفتوى أي تنزيل الفتوى على واقعها، نرى أن ما ذكر هو "مبالغة في التشدد" بدون الإيضاح والتبيين، الذي يريح القلب، ويطمئن الجوارح. بدون أن نذكر أن الفتوى "بقطع الذرائع"، التي تجعل من واجب المسلمين تحبيب الناس إلى الإسلام، تجعل من الواجب إظهار الإسلام على حقيقته، يريد للناس اليسرى، لا العسرة. وعقد زواج مدني أفضل بألف مرة من علاقة خارج إطار الزواج، أليس هذا صحيح يا أصحاب الأمر؟
أكاد أقول أن سماحة المفتي قد أسرع بالفتيا، ربما لأن البعض من مستشاريه لم يوضح له حيثيات هذه الفتيا، أو لأنه في حالة غضب من الحال التي وصلت إليها الطائفة السنية الكريمة من التشتت وغياب الإتفاق بين المرجعيات، فأراد أن يجمع المسلمين في موقف واحد، فكان أن حكم، ولم يفت، ودون أن ييسر في مواطن الخلاف، فاجتهد، والمجتهد حالان، مصيب مأجور وله أجران، أم مخطىء معذور وله أجر. 
غسان بو دياب