حين بدأ التدخل العسكري الروسي في سورية في شهر أيلول (سبتمبر) 2015، طرح المحللون العرب والأجانب الكثير من التساؤلات عن الدوافع والخلفيات والغايات، فجاءهم الجواب بسرعة على لسان ديمتري ميدفيديف (رئيس الحكومة الروسية): «أن الغارات التي تشنها الطائرات الروسية في سورية هي لحماية روسيا من التهديدات الإرهابية». فهل لهذا الإعلان ما يبرّره؟
في الواقع، أن صعود الإسلام السياسي المتطرّف أقلق الرئيس الروسي بوتين، وأثار مخاوفه من إمكانية تغلغل التيارات الأصولية التكفيرية في صفوف مسلمي الاتحاد الروسي. وما برّر هذه المخاوف إعلان جريدة «البرافدا» الواسعة الانتشار في عددها الصادر بتاريخ 21 تموز (يوليو) 2008، أن الإسلام قد يصبح الديانة الأولى في الاتحاد الروسي بحلول العام 2050، لارتفاع معدلات الولادات والتزايد السكاني لدى مسلمي الاتحاد. مع العلم انه يوجد حالياً (2008) ما بين 22 الى 25 مليون مسلم في الاتحاد الروسي، بينهم حوالى مليوني مسلم في العاصمة موسكو وحدها.
وزاد من مخاوف بوتين أن مثل هذه التوقعات ظهرت أيضاً في وسائل الإعلام الأوروبية، وعلى ألسنة العديد من المحللين وعلماء الديموغرافيا.
يتوزع مسلمو روسيا على أكثر من 40 قومية أبرزها التتار ثم البشكير والشيشان، وبينهم كثيرون من أصول تركية في الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وتربطها حالياً علاقات وثيقة سياسية واقتصادية وأمنية مع الاتحاد الروسي. يتجمّع المسلمون بخاصة في مناطق حوض الغولغا، وفي جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى.
استناداً الى هذه الوقائع، يرى العديد من المحللين ان تمسُّك القيادة الروسية ببشار الأسد ونظامه في سورية، ما هو سوى تعبير عن قلق متزايد لدى القيادة الروسية من إمكانية امتداد الأفغنة (نسبة الى ما يحصل في أفغانستان) الى داخل الإراضي الروسية، وتحوُّله الى حرب عصابات واسستنزاف طويلة بالغة الخطورة على مستقبل الاتحاد الروسي وموارده الأساسية، وعلى الأخص النفط والغاز.
ويعتبر المحللون أن قرار بوتين ضرب التطرّف الإسلامي الإرهابي في مناطق انطلاقته الأصلية في الشرق الأوسط، انما القصد منه التصدي لموجات التكفير الأصولية، ومنعها من الوصول الى الأراضي الروسية وما يجاورها من جمهوريات يسكنها مسلمون قد يتأثرون بهذه الأفكار وينتقلون الى الفعل المدمّر والمخرّب والبالغ الخطورة. ومما زاد من مخاوف بوتين ودفعه الى الانغماس في المشكلة السورية المكلفة مالياً واقتصادياً وسياسياً، أن حوالى خمسة آلاف مقاتل إسلامي متطرف يقاتلون في سورية قدموا من جمهورية أوزباكستان وحدها. يضاف اليهم آلاف الشيشانيين الذين بينهم العديد من القيادات في التنظيمات الإرهابية، أمثال: رستم غيلاييف، ابو موسى الشيشاني، سيف الله الشيشاني، ابو الوليد الشيشاني، صلاح الدين الشيشاني، وعمر الشيشاني الذين قادوا العمليات العسكرية الكبرى في سورية ضد نظام الأسد.
هذه الوقائع وما يمكن ان تؤول إليه الأمور، أثارت الكثير من المخاوف لدى الرئيس الروسي بوتين، بخاصة بعدما أعلن زعيم هيئة العلماء المسلمين في العالم الشيخ يوسف القرضاوي أن روسيا هي عدوة للإسلام والمسلمين، تساءل بوتين: ماذا يمنع أمثال هؤلاء المتطرفين من الانتقال إلى داخل الأراضي الروسية بحجة محاربة أعداء الإسلام والمسلمين؟ فقرّر القيام بعمل استباقي، وأرسل طيرانه الحربي لمحاربة التنظيمات الإرهابية في سورية. إلا أن حصر هذا التدخُّل في سورية فقط أثار العديد من التساؤلات، لأن هذه التنظيمات المتطرّفة موجودة في سائر بلدان الشرق الأوسط في شكل أو آخر. هل رسم الأميركيون الذين يقودون تحالفاً دولياً واسعاً لمحاربة هذا الإرهاب ذاته خطوطاً وحدوداً للتحرك الروسي وحصره في النطاق السوري؟ أم هي المصالح الاستراتيجية الروسية في سورية التي تستدعي من الروس عملاً محدداً لحمايتها؟ وأين مكان النظام الأسدي في كل ما هو مطروح روسياً؟
وحدث ما لم يكن في حسبان بوتين، إقدام السلطات التركية على إسقاط طائرة حربية روسية في المجال الجوي التركي، وهو الذي كانت لبلاده علاقات سياسية واقتصادية مميزة مع تركيا أردوغان. فساءت العلاقات ووصل التوتر لدرجة القطيعة وتبادل التهديدات. هذه القطيعة أزعجت الروس والأتراك على السواء، لأن مصالح مشتركة تجمع بينهم. ولذا، وعلى رغم مظاهر التوتر، تواصلت محاولات رأب الصدع سراً بين الدولتين، ومطالبة كل طرف منهما الطرف الآخر أخذ مصالحه وهواجسه بالاعتبار، والعمل معاً من أجل إيجاد مخرج يخدم مصالح الطرفين.
تركيا تعاني من أخطار كردية على وحدة أراضيها، وهذه الأخطار اليوم مصدرها سورية حيث لروسيا نفوذ كبير، الى جانب الضغوط الغربية الأوروبية والأميركية التي تزايدت بعد سماح تركيا بتدفق مئات ألوف اللاجئين السوريين والعراقيين الى أوروبا، وتعريض أمن أوروبا الى أخطار كبرى، بسبب تسلّل العديد من الإرهابيين الى أوروبا بين صفوف اللاجئين.
وروسيا تعاني من ضغوط القوى الغربية عليها بسبب المشكلة الأوكرانية، ومحاولة حلف الأطلسي الضغط على الحدود الروسية مع دول الحلف، إضافة الى معاناتها من أخطار الإرهاب الإسلامي.
هذه المخاوف هنا وهناك أوجدت أرضية مشتركة ومصالح مشتركة، فرضت على تركيا كما على روسيا، إعادة حساباتها، والسعي الى تبديل المواقف والسياسات والتحالفات.
وسنحت الفرصة: محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا على أردوغان. فكان بوتين أول المستنكرين للمحاولة، والمبررين للإجراءات الأمنية التي اتخذتها السلطات التركية ضد الانقلابيين، فيما سادت الضبابية مواقف الدول الغربية المفترض انها حليفة لتركيا، اعتراض على التدابير ضد الانقلابيين، وعدم تنديد صريح بمحاولة الانقلاب، رغم خروجه عن الأصول الديموقراطية التي ينادي بها الغربيون، ويدعون سائر دول العالم الى احترامها.
وحصل أخيراً اللقاء الضرورة، لقاء المصالح المشتركة والمخاوف المشتركة، في سان بطرسبورغ بتاريخ 9 آب 2016، وجاء تجسيداً لاقتناع كل من بوتين وأردوغان بأن إعادة الحرارة والحميمية للعلاقات بين بلديهما، هي لمصلحة الدولتين ولحماية أمنهما القومي والسيادي.
حسناً فعل الزعيمان بالتركيز على المال والاقتصاد، وكلاهما في حاجة الى تدابير تُحسّن أوضاعه المالية والاقتصادية المتدهورة.
وحسناً فعلا بطرح كل منهما لمخاوفه الأمنية السيادية، وإقراره بحاجة كل منهما للآخر. أردوغان اكتشف ان روسيا يمكنها القيام بدور ايجابي لحماية أمن وسيادة تركيا من خلال ما لها من نفوذ على الساحة السورية والشرق أوسطية، وبوتين اكتشف ان تركيا يمكنها ان تقوم بدور بنّاء لحماية أمن روسيا وسيادة روسيا سواء مع الحدود مع سورية، ام من خلال ما لها من نفوذ على مسلمي الجمهوريات المجاورة الروسية ذوي الأصول التركية.
النيات حسنة، والمخاوف مبرّرة، يبقى مراقبة التصرف على أرض الواقع، وهذا ما ستكشفه الأشهر المقبلة.