إن أزمة الوعي المتفرعة عن أزمة فكرية التي نعيشها , هي معضلة حقيقية , تضاف إلى الأزمات التاريخية الكثيرة التي حلّت بنا , وكان لها الاثر السلبي على طريقة تفكيرنا وبالتالي على نفسية الانسان المسلم والعربي بشكل عام .

هذه الازمات المتراكمة قد منعت وما زالت تمنع كل محاولات الاصلاح في مجتمعاتنا , وعلى كافة الصعد , بعدما سادت في الامة أشكال من التخلّف الفكري والمنهجي , أثرّت على عملية النهوض الحضاري , وعطّلت الفعل والإنفعال , والانجاز والابداع , وهذا كان عائقا بارزا في عملية الاصلاح التي حاول أفراد كثيرون الولوج في مناهجه , وما زالت محاولات الاصلاح  تصطدم بعوائق فكرية متعددة وعلى رأسها عائق الفكر الديني المانع من تجاوز الازمة بسبب تمسكه بالموروث ذي المنشأ البشري المتأثر بزمانه ومكانه .

إن الفكر الديني السائد يعتريه تشوّه في رؤيته الشاملة للكون وما فيه , وهذا يشكل إطار فكر الامة , فلم تعد الرؤية قادرة على تقديم الدليل المقنع والهداية الكلية بما يرضي ضمير المسلم ويُقنع عقله في ظل النظام العالمي الجديد , حيث أن الرؤية كلما كانت واضحة وسهلة الفهم , كلما كانت بعيدة عن التناقضات المنفرّة , وإبتعدت بالتالي عن الخرافة والوهم والاسطرة  , وكلما كانت بعيدة عن التعقيد , وبعيدة عن الاغراق في لغة التجريد والتنظير , وفرض المسلمات القهرية , والاعتماد على يقينيات مسبقة قد تكون غير ثابتة وتخفي الكثير من التناقضات والتعقيدات والعجز , فكلما بعدت عن هذه السلبيات , شكلت قوة عقدية وتربوية , فاعلة ومؤثرة على الفرد وعلى المجتمع , وكلما أعطت الفكر محفز للحركة الذاتية لتحديد ضوابته المنهجية , لأن عدم تحديد الضوابط المنهجية في التفكير يؤدي إلى رؤية ناقصة أو قاصرة للاشياء , وبالتالي يؤدي إلى فوضى في ترتيب الاولويات كمقدمة لمصالح لتحقيق مصالح الامة .
كما يتمثل الخلل في هذا المجال في البحث عن الحقيقة في حيِّزٍ ضيق ومحدود من مجالات المعرفة بالاقتصار على التراث دون المستجدات، والاقتصار في هذا التراث على الجانب الفقهي منه، دون استيعاب مصادر التأسيس من الكتاب والسنة، أو على الجانب النصي دون استيعاب مجالات التطبيق في مسائل الكون والعمران، والنتيجة الحتمية هي توقف الاجتهاد والاكتفاء باستهلاك نفس المنتوج دون محاولة إنتاج منتوج جديد يلائم متطلبات العصر؛ اعتقادًا بأن القواعد المستخدمة في البحث في القرآن والسنة تعتبر كمسلَّمات، رغم كونها مجردَ قواعدَ أبدعها الفكر الإسلامي  

إن عدم تجديد مناهج البحث , في الفقه والاصول على سبيل المثال لا الحصر , وتضخيم فقه العبادات , وإهمال فقه الواقع العملي , نتج عنه ما نراه من إجترار الفتاوى , والتمسك بإنتاج فقهي تاريخي , تشكل بناء على معطيات تاريخية , وهذا من أهم أسباب إشتداد العصبية المذهبية التي تتقاتل اليوم دفاعا عن ماضٍ مضى , ويدمرون الحاضر والمستقبل إثباتا وتثبيتا لتاريخ لا علاقة لنا به سوى أنه مصدر لتشريع القتل وهدم الانجازات ومنع الاقلاع نحو المستقبل .