ين قُتل مصطفى بدر الدين في سوريا، نعاه «حزب الله» بجملة نُسبت إليه، يقول فيها: «لن أعود من سوريا إلا شهيدًا أو حاملاً راية النصر». لم يجد بدر الدين مكانًا للنصر
في سوريا، ولن يجده حسن نصر الله بالتأكيد، في بلاد أفردت أوسع مساحة «استشهاد» لقادة وعناصر «حزب الله»، غير مسبوقة في تاريخ المعارك التي قادتها الميليشيا
الإيرانية.
في حلب كانت الصدمة. تأكد الأمين العام لـ«حزب الله» أن احتمالات «الشهادة» أكبر بكثير، ليس بما يعنيه هو شخصيًا، بل بما هي مآل رمزي لمصير الميليشيا الإيرانية
التي وضعته الأقدار على رأسها منذ عام 1992.
الشاب الثوري الذي فتنته الخمينية، استساغ الانتصارات وبدت له سيرته أنها انتقال يسير لا ينقطع من نصر إلى نصر!
لا تتبجح حماس بمقدار ما يتبجح هو بالانتصارات على إسرائيل مثلاً، وهي خاضت مثل الحروب التي خاضها. صواريخ لا تكف تطلق على إسرائيل وطيران إسرائيلي يدمر
كل شيء، ثم تسوية سياسية تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل انفجار المواجهة. حتى الانسحاب الأحادي من غزة، لم تجعل منه حماس عرًسا للتحرير، كما جعل نصر الله
من الانسحاب الأحادي من جنوب لبنان نصًرا مبينًا. لا يريد أن يتذكر أن الانسحاب الإسرائيلي كان مشروًعا انتخابيًا علنيًا يومها لإيهود باراك. وهو فاز بتفويض كبير من
الرأي العام الإسرائيلي، للانسحاب من جنوب لبنان. انسحاب أحادي وقرار سياسي إسرائيلي، كما حصل في غزة، وليس انسحابًا تحت ضربات المقاومة، كما حاول «حزب
الله» أن يُثبت، عبر خلق مشهدية تواكب الانسحاب بالرصاص والبنادق!
وهو كحماس جعل من الأرض المحررة، مرتعًا للبؤس وحلبة للصراع الأهلي، على الرغم من أن مآسي غزة ترتبط في كثير من وجوهها بجلافة السياسات الإسرائيلية، وهو
ما تحرر منه لبنان وكان أمام فرص أفضل جراء ذلك.
ليست حماس أكثر تواضعًا، بل نصر الله أكثر هوًسا بصورته وصورة حزبه كفريق لا مهنة له إلا النصر. ساهم في ذلك إعلام متواطئ ونخب انتهازية أو حالمة أو مشوشة،
في لبنان والعالم العربي.
حلب غيرت المعادلة. في حلب، وسوريا عموًما، شيع نصر الله خيرة أبناء جيله.. طليعة الخمينية المقاتلة، التي بدر الدين أحد أبرز نجومها.
لم يخيل لنصر الله، الذي يعيش صورة المنتصر الدائم بكل جوارحه، حتى حين تخالفها الوقائع، أن يقف في الذكرى العاشرة لحرب «لو كنت أعلم» مخاطبًا «النصرة»
و«داعش»، مستحلفًا إياهما با ونبيه وكتابه أن يوقفا القتال، عارًضا عليهما المصالحة والتسوية!!
لماذا يعرض التسوية، بل يرجوها، منتصر من عيار نصر الله؟ ولماذا يتصالح مع «تكفيريين إرهابيين شاقي صدور وآكلي قلوب وقاطعي رؤوس» وهو في ذروة المواجهة
معهم، وبعد أكثر من خمس سنوات من تعبئة لا تهدأ؟
من في موقع نصر الله يعرف أن التدويل المتنامي للأزمة السورية منذ دخول روسيا الحرب قبل نحو عام، يعني أن الميليشيات ليست سوى وقود للحرب وآليات تنظيمها،
ويعرف أنه عاجلاً أم آجلاً سيترجل عن منبر الخطابة ليعود إلى أرض الواقع ويتعامل مع معطياته. يعلم أنه في سوريا ولبنان عليه أن يعود للحديث مع السنة بغير اللغة التي
اعتادها، وخيل إليه أنها اللغة الوحيدة الممكنة، ما دام أنه يستطيع.
نصر الله المأزوم سنيًا عرض المصالحة على سنة «الهلال الشيعي» من أبي بكر البغدادي إلى سعد الحريري، لأنه يعرف أن الهلال ما عادت ممكنة رؤيته وأن عليه تنظيم
انسحابه. طرح على البغدادي إلقاء السلاح والمصالحة، وعلى الحريري اتفاقًا سياسيًا يفرج عن النظام السياسي اللبناني المفرغ، ويعيد تكوين السلطة على أن يكون الحريري
رئيًسا للحكومة.
مهد للتسوية، بإعادة ترميم موقعه كـ«مقاومة» في وعي جمهوره أولاً. فمنذ اندلاع الأزمة السورية، كان خطابه الأخير الأطول عن إسرائيل، التي كادت تغيب كليًا عن خطبه
السابقة. حشد كل ما أوتي من حجج، لا ليقول إنه انتصر فحسب، بل ليعيد تأسيس الوظيفة؛ وظيفة «المقاومة»، فيما لو اضطر لتعديل مستوى حضوره في سوريا. تحدث
كمن يستشعر أن المغامرة السورية انتهت، بقي هناك أم لم يبَق. على نحو أدق، يستشعر أن المغامرة السورية كما أرادها انتهت.. لا مكان في سوريا لانتصار سهل، يصير
حدثًا تلفزيونيًا ومادة تعبئة وعنوانًا للخطب النارية، بل لا مكان لانتصار، أي انتصار. يعرف نصر الله أن دخول الحرب السورية ليس كالخروج منها، وأن ضحاياه في سوريا

حدثًا تلفزيونيًا ومادة تعبئة وعنوانًا للخطب النارية، بل لا مكان لانتصار، أي انتصار. يعرف نصر الله أن دخول الحرب السورية ليس كالخروج منها، وأن ضحاياه في سوريا
ولبنان هم مصدر نجاته اليوم، وهم من يسمحون له بإعادة تأسيس موقعه ووظيفته ووجوده في البلد، كـ«مقاومة مع وقف التنفيذ»، فكان خطاب التسوية «ويا دار ما دخلك
شر»!
قلة بين السنة راغبة في منحه هذا المخرج، وإن كان البديل عنه المزيد من الدم والرعب والدمار. رغبات رد الصاع أقوى بكثير من خيارات الحكماء والعقلاء. فائض الدماء
التي اشترك «حزب الله» في إراقتها في سوريا والعراق ولبنان، لا يجعل منه شريًكا ممكنًا في أي تسوية مقبلة، كما لا يسمح لبشار الأسد أن يكون شريًكا في أي تسوية في
سوريا. هذه نتيجة مدمرة للبنان، وحاصلة على الأرجح، مهما تحايل عليها العقلاء.
قبل حلب، كان عنوان «حزب الله»: «إما شهيدًا وإما حاملاً راية النصر». بعد حلب صار العنوان: «إما شهيدًا وإما شهيدًا».
لن يكون مرور الجنازة يسيًرا على أحد.