وجاءنا الارهاب هذه المرة من القرن العشرين الذي خلّف لنا، قضايا بقيت معلقة من دون حلول. فمن العسكر فلوله الانقلابية التي جاءت غريبة عن زمنها.

صدعتنا التلفزيونات ببيان أول من العسكر الانقلابي في تركيا: اعلان الأحكام العرفية والطوارئ ومنع التجول؛ الانقلاب من فوق. من طغمة جنرالات وكولونيلات: ذكرتنا بالقذافي وصدام حسين وحافظ الأسد وبينوشي وأميركا اللاتينية…. انه القرن العشرون يُطل بأشباحه على القرن الحادي والعشرين. ارهاب الأقلية الدكتاتورية التي كانت تعلن انقلاباتها في الماضي من الإذاعات وها هي اليوم من التلفزيونات ووسائط التواصل الاجتماعي. وما حدث في تركيا ليس انقلاباً على اردوغان فحسب، بل على روح هذا القرن الذي طبعته ظاهرتان متناقضتان: تفكك الدول وعودة حلم الامبراطوريات الكبرى: تركيا إلى عهد السلطنة العثمانية، إيران إلى عهد الإمبراطورية الفارسية، وروسيا إلى حلم الإمبراطورية القيصرية. التفكك مقابل الدول المرصوصة؛ وما يشكل تنافراً آخر في هذا القرن، هو ظهور الثورات الشعبية ضد الأنظمة الاستبدادية: القرن العشرون، عصر الدول الكبرى: الاتحاد السوياتي بأيديولوجيته الماركسية اللينينية الستالينية والمانيا بأيديولوجيتها النازية، وأميركا بأيديولوجيتها الرأسمالية… كأننا بتنا اليوم في عصر المتناقضات بامتياز: من ربيع عربي شعبي حُوّل حروباً مذهبية أو اثنية أو عنصرية، ومن ثورات “ثقافية” (الفرنسية السوياتية) إلى ارتدادات لاعقلانية: من المادية التاريخية إلى الليبرالية المجنونة، فإلى الظواهر الغيبية، اللوناتيكية، وامتدادات الشعبوية من كل لون… التفكك (فرنسا انكلترا أميركا) إلى الوحدات الدينية اللامحدودة.

فكيف جاء الإرهاب هذه المرة، من غرف الضباط والجنرالات في زمن آخر: ليضرب فكرة الدولة المدنية، الديموقراطية في تركيا. كأن مجانين المراحل السابقة، أطلوا لكي يدمروا ما تبقى من الدول وإرادة الشعوب، وما سمي ربيعاً، او انتفاضاً شعبياً: هذا ما حدث لثورة الأرز ونقيضها “حزب الله”. ضرب هذه الظاهرة بكيان مذهبي مستورد. وهذا ما حصل في إيران، عندما انقض نظام الملالي العسكري- الميليشيوي على الثورة الخضراء فأجهضها (وإنْ إلى حين) وهذا ما حصل في القرم عندما فصلها بوتين بالقوة عن أوكرانيا ليضمها إلى إمبراطوريته. وذلك ما حصل في سوريا: عندما اندلعت ثورة الشعب السوري (80 بالمئة) وجابهها بشار الأسد وروسيا وإيران ووراءهم أميركا أوباما، بما ينفي عنها سلميتها وشعبيتها لتتحول حرباً مذهبية! وهذا ما حدث في العراق بعد الغزو الأميركي وبإسقاط نظام صدام حسين وتسليم العراق إلى دولة الملالي لتتحول مواجهات مذهبية. فالدكتاتوريات الانقلابية الماضية عادت بمباركة الديموقراطيات الغربية أو بتواطئها…..

في الكواليس

واللافت أن معظم الذين شوّهوا الربيع العربي كأنما كانوا أنفسهم وراء كواليس الانقلاب العسكري التركي! تجري روايات ان أوباما ليس بريئاً من دم الصديق التركي. (ويكفي ان نسمع نفي الأميركان بتورطهم بهذا الانقلاب لكي نرسم علامات استفهام قلقة. بل يكفي ان نعرف ان معظم رؤساء الدول الغربية الذين أيدوا الدولة التركية بعد فشل الانقلاب، لم يتصل أحد بأردوغان. فهل كان هذا الأخير وحيداً؟ هذا ما أقلقنا في الساعات الأولى من البيان الانقلابي الأول. لكن على الصعيد الآخر فإن الدول العربية المجاورة وفي طليعتها السعودية وقطر بدتا وبوضوح ضد هؤلاء الانقلابيين، وساندتا أردوغان الدولة والمؤسسات البرلمانية والحكومية…. وعرفنا ذلك من مجريات وسائل هؤلاء الاعلامية: “العربية”، و”الجزيرة” امتداداً إلى تلفزيونات “المستقبل” و”دبي” و”الإمارات” و”إل.بي.سي”… كلها كانت تعارض الانقلاب، وتؤيد الحكومة الشرعية. اما “السي.إن.إن” و”الـ”B.B.C” فأبقتا على شاشتيهما عناوينها الأولى: “انقلاب في تركيا” حتى بعد فشله. وهذا كان شأن تلفزيونات “المنار” و”الميادين” والتلفزيون السوري… حتى الصباح، وبعد وضوح كل شيء، وهروب الضباط واحتلال الجماهير ساحات المدن في تركيا دفاعاً عن الدولة التركية، بقيت هذه المحطات على “آمالها” وتمنياتها: “انقلاب في تركيا”! لكن التلفزيون السوري (ووراءه أوباما طبعاً ونتنياهو وإيران…) فقد تفوق على نفسه: في اللحظات الأولى من الانقلاب، انزل النظام مظاهرات سيارة من شبيحته ومخابراته وراحت تحتفل بـ”سقوط العدو” أردوغان وتوزع الحلوى (المسروقة ربما) على الناس. فجأة صار نظام الدكتاتورية المستعارة بشار شعبياً، ونظمت ندوات تلفزيونية على شاشات النظام وسيق بعض المرتزقة ليحللوا أسباب الانقلاب، ونتائجها ويفندون بطريقة “هزلية” اخطاء أردوغان ضد شعبه! وهذا ما فعله “المنار”: احتفالات لفظية بانتصار إلهي في بلاد الأتراك. تعاملوا مع زمن زحف الشعب التركي بربيعه الديموقراطي الأول كما تعاطوا مع ثورة الأرز: فالشعوب تخيف هؤلاء الفاشيين… وبعد فشل الانقلاب بعدة أيام راح مرتزقة الحزب وصحفه الكانتونية يشوهون هذه الجماليات الشعبية الرائعة التي صمدت وشاركت في صد الانقلابيين بشتى التحاليل ليعلن بعضها “نهاية تركيا” و”تعليق المشانق” و”فتح السجون” و”قمع الناس” (أي ناس) و”نهاية الجيش التركي وزوال أثر أردوغان داخل بلده، وفي محيطه”! هذيانات برتب صبيانية ببغائية…. ونظن ان موقف الشعب التركي قد احرج هؤلاء كلهم، باعتبارهم من خريجي معاهد المخابرات والسجون والقتل والقمع ومعاداة إرادة الشعوب: خريجي “الجامعات” الأسدية والخامنئية والصهيونية… والروسية!

عيون بشار والملالي

فبأي عين ينظر بشار والملالي وذيلهما حزب سليماني، إلى دولة حماها شعبها من الدكتاتورية! أف! الشعب التركي فضحهم من جديد بعدما سوّدت وجوههم الثورة السورية والإيرانية. انه الشعب عاد بكل وعيه، وبكل حرصه على مكتسباته ليتصدى بشجاعة نادرة للانقلاب العسكري. هم قمعوا شعوبهم فكيف يتحملون شعباً تدفق بالملايين لحماية ديموقراطيته. لقد اعتدنا، سابقاً، ان يسحق انقلابُ انقلاباً (سوريا، العراق) لكن جاءنا النقيض النوعي: الشعب يسحق انقلاباً كيانياً منفصلاً عنه، بات غريباً عن عاداته. (خصوصاً وان الأتراك ذاقوا مرارات العسكر وسيطرتهم ودكتاتوريتهم وفسادهم ومصادرتهم خيرات بلادهم وحرية ناسها) ونظن ان اجماعاً جماهيرياً حدث للمرة الأولى منذ زمن بعيد، صاغه الشعب، والأحزاب اليسارية واليمينية.

جوهرة نادرة

كلهم صاغوا الإجماع كجوهرة نادرة. انها قمة الوعي والشعور بالمسؤولية. ونظن ان ذلك أحرج الغرب الذي يعاني انقسامات عرقية ومذهبية واثنية في فرنسا، وانكلترا وأميركا وارتداد هذه الشعوب عن مبادئها الكبرى وعن ثوراتها وعن مكانتها. نعم! ما حصل في تركيا درس بليغ للغرب الذي لطالما افتخر بقيمه الديموقراطية والشعبية. ففي تركيا برز الناس بكل عقلانيتهم ووطنيتهم وحضارتهم لتظهر في المقابل أميركا ترامب وفرنسا مارين لوبان و… يا للمفارقة. كأن الشعب التركي هو الذي حافظ على مبادئ الثورات الغربية السابقة والأحزاب الغربية من علمانية وليبرالية ويسارية غرقت في ما غرق فيه الارهاب: من كراهية وعنصرية وكانتونية ودينية ومذهبية!

الإسلام والغرب

أكثر: إذا كان الغرب بات يصور في أدبياته السياسية والشعبية والفكرية والثقافية، الاسلام كله إرهابياً لا يستحق الديموقراطية وعاجز عن ممارستها (حتى جينياً) فها هم “مسلمو” تركيا ينسفون كل هذه النظريات والتصورات العنصرية الغبية والبائدة. الغرب في مستنقع الشعوبية والعنف والانفصالات والتفكك. وها هو الشعب التركي المسلم يتوحد بثورته الوطنية. ها هي دول الغرب تتفكك إما بالعولمة وبالاقتصاد أو بالنزعات التقسيمية، وها هو الشعب التركي متراص يدافع عن دولته الواحدة، فأين صار هذا التبجج الاستعلائي الذي يعود إلى زمن الهيمنة والاستعمار؟ إذاً، المسلمون ديموقراطيون! وليسوا كلهم “داعش”. والمسلمون احرار ويستمتعون بحريتهم وليسوا كلهم ارهابيين. وإذا كان الغرب شمل الدول الإسلامية الأكثرية (السنية العربية) بهذه الداعشية، فها هي السعودية ودول الخليج تدين الانقلاب التركي وتحيي الشعب الحي، النبيل، الباسل، الذي يدافع عن مؤسساته ووحدته. ذلك لأن المؤامرة التي حيكت في تركيا ليست يتيمة: فقد أراد بعض الغرب أن يحول تركيا إلى دولة مفككة، كما فعل في العراق، (مستعيناً بإيران). فبعدما هجروا من الأكثرية السنية العربية الملايين، ودمروا قراهم ومنازلهم ومدارسهم واقتلعوهم من أرضهم؛ وبعدما سلموا العراق للملالي المذهبيين فها هم يطاردون سنة العراق. وبعدما تغاضوا عن الانقلاب الحوثي (المرتهن بإيران) ها هم وأوباما في الطليعة (مصاباً بفوبيا الاسلام السني) (كما بدأت تتسرب الروايات والأخبار) يريد بالتضامن والتكافل مع إيران واسرائيل تحطيم الديموقراطية التركية عبر الانقلاب العسكري (حنين إلى زمن أميركا اللاتينية) تماماً كما أجهضوا الثورة السورية لتقوم حروب مذهبية وتخرب سوريا كلها… لأنه لو نجح العسكر التركي في محاولته، لهبّ الشعب كله… لكن بعدما يكون ربما فات الأوان، لتنفجر حرب أهلية بين مكونات الدولة… وهكذا، تلقى تركيا مصير دول ربيع الثورات العربية؛ وقد تنضم إلى الواقع الغربي: تفكك وعنصرية وتقسيم ومذابح؛ وعندها، (أقصد لو كان نجح الانقلاب) قد “يخترعون” دواعش هناك وارهاباً مذهبياً واثنياً ودماراً في الديموقراطية الوطنية الموحدة!

فالمسألة لا تتعلق بأردوغان فقط. بل بتركيا الموقع والدور، والأثر. هذا ما كان يخطط له فاشيو إيران وأميركا (أوباما) ونازيو النظام السوري! فما دام المسلمون (كما يرون) سريعي الانقلاب على متعلقاتهم وعلى تاريخهم وحضارتهم فمن المحتمل ان يصيبهم الانقلاب في عقولهم وتصيبهم معه عدوى الارهاب الداعشي والعنصرية الايرانية والارتدادات الغربية.

… والربيع العربي

لكن الأغرب من كل ذلك، ان يتماهى بعض الغرب (على الرغم من تأييده الحكومة التركية (بعد فشل الانقلاب) بهذه الحركة الانقلابية بطريقة غير مباشرة وخبيثة. وكأنهم بذلك يتخذون من جديد موقفاً غير مباشر من الربيع العربي الذي قام أصلاً ضد الدكتاتوريات العسكرية. طريف! بل كأنهم يُجددون عداءهم للربيع العربي، بعدما ساهموا في تحويله عن مساره الشعبي السلمي الديموقراطي. فهل بلغ حقدهم الأعمى على الشعب السوري، من خلال مقاومته في ثورته إلى تأكيد كل ذلك عبر الانقلاب على الشرعية في تركيا. فهل الأنظمة العربية الفاشية هي الممثل الوحيد لشعوبها! وكل محاولة خروج او انتفاض عليها توضع في خانة الإرهاب أو اللاشرعية الدستورية أو القانونية أو الدولية؟

ومجرد قراءة بعض التفاصيل التي نشرت في صحف فرنسية أو انكليزية أو أميركية… نكتشف بكل أسف انها لم تعط الشعب التركي حقه وموقعه وشجاعته التي دحرت الانقلاب. كان تركيزها الاعلامي على أردوغان فقط، الذي لم يسلم من نقدها واشارتها ونصائحها اليه، باحترام حقوق الشعب وديموقراطيته وحرياته. عال! نحن نؤيد هذه الملاحظات لكن شرط ألا تكون بديلاً من اظهار مدى تعلق الناس بمكتسباتهم ومدنيتهم ورقيهم وشجاعتهم.. كأنما رفضوا الاعتراف بأن الشعب التركي قد غير إلى حد كبير مجرى التيار السائد في الغرب وسواه: حالات الانعزالية والتقوقع والخوف والجبن والعنصرية والكراهية ومساهمته في محاولات تدمير الدولة ووشائجها العالمية والأوروبية. كأنه الشعب هناك في الغرب، قد استقال من دوره… وها هو يعود إلى زمن الركون واللامبالاة والعبثية بعدما تفككت ثقافته التنويرية والثورية والنهضوية. وها هو على أعتاب الكانتونية العنصرية والمذهبية (أميركا كأنما تعود إلى زمن الفوبيا الزنجية الأفريقية وفرنسا إلى زمن الفوبيا الاسلامية وكذلك السويد والمانيا وبريطانيا (أكثر الدول شوفينية وانعزالية)… ونظن ان هذه المشاعر دغدغت ايضاً كثيراً من الشرائح الغربية عندما اندلع الربيع العربي الذي صدمهم وعرّى خريفهم “الحضاري” وبدأ امثولة الشعب العربي لكل العالم… إلى درجة انه دفع ثمن ربيعه! فإسرائيل كما يقولون وحدها في هذا المشرق “قادرة” على ممارسة الديموقراطية. وهي وحدها واحة الحرية! هناك، في الوقت الذي تحولت فيه الدولة العبرية إلى مجموعة كانتونات تضخ المتطرفين والعنصريين وتقتل الفلسطينيين وتزج صبيانهم في السجون. فإسرائيل اليوم التي كانت صورة الغرب الحضاري في المنطقة باتت أسوأ منه. باتت أسوأ من دول العالم الثالث. الدولة القوية على الفلسطينيين والضعيفة أمام الأصوليين والمتطرفين حتى باتت الحياة السياسية نفسها ملغاة والصراع السياسي المفترض بين اليمين واليسار غائباً: اليمين العنصري يسود واليسار يتضاءل ومثله الليبراليون. جاء الشعب التركي و(قبله الربيع العربي وكذلك الربيع الإيراني) ليلقن اسرائيل والغرب دروساً في المعارضة والثورات والشجاعة!

لكن، وأخيراً، وإذا كان الاجماع الجماهيري التركي اسقط الانقلاب العسكري، وانقذ اردوغان فنظن انه على هذا الأخير ان يطمئن هؤلاء بأن ما دافعوا عنه من ديموقراطية وحرية سيكون مضموناً ومصوناً وإلا وفي حال حدث العكس فقد يصاب هؤلاء بالخيبة! والخيبة أم الثورات!

الملحمة التي صاغها الشعب التركي هي قبل كل شيء رسالة مغايرة إلى كل العالم.

 

بول شاوول