لم يعد الأمر مجرد شكوك، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يؤكد مجددا أن الانقلاب مجرد ستار يبرر حملة اجتثاث واسعة في مختلف المؤسسات والوزارات طالت الآلاف من الموظفين المحسوبين على خصومه أو الذين عرفوا بعدائهم لحزبه وأفكاره ومواقفه التي تورط تركيا في أزمات المنطقة دون أيّ مراعاة لمصالحها.
يأتي هذا في وقت تلوّح فيه أنقرة بالمزيد من التصعيد مع واشنطن التي ترفض أن تسلم فتح الله كولن زعيم حركة الخدمة المقيم في الولايات المتحدة والذي تطالب به تركيا.

ولم تقف الإجراءات الانتقامية عند المنتمين إلى الجيش والقضاء الذين اعتقلت أجهزة أردوغان الآلاف منهم وفق قوائم معدة مسبقا بزعم الاشتراك في انقلاب بدأت تحوم الشكوك بشأن غايته.

فقد أقالت الحكومة التركية أكثر من 15 ألف موظف في وزارة التربية، و1577 من عمداء الكليات ورؤساء الجامعات التركية، فضلا عن 492 من مديرية الشؤون الدينية.

وأعلن المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون في تركيا الثلاثاء عن إبطال تراخيص التلفزيونات والإذاعات المقربة من الداعية فتح الله كولن المقيم في المنفى في الولايات المتحدة وتتهمه أنقرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب.

وشملت الحملة كذلك، أعدادا من العاملين في الرئاسة ورئاسة الوزراء والاستخبارات والشرطة، وهي المؤسسات التي لم يتم اتهامها بالتورط في الانقلاب في البداية.

وقال مراقبون إنّ عزل هذه الأعداد الكبيرة من وزارات لا ترتبط مهامها بأدوار العنف (مثل الشرطة أو الجيش) يكشف عن أنّ الأمر يتجاوز الانقلاب إلى تصفية حسابات أيديولوجية في مواقع عرفت بدفاعها عن قيم العلمانية خاصة عمداء الجامعات الذين لم ينس لهم أردوغان رفضهم قبول المحجبات للدراسة.

وأشار المراقبون إلى أن تركيز الرئيس التركي على اتهام خصمه كولن ذي النزعة الصوفية، هدفه حرف الأنظار عن حملة أوسع تشمل أيضا خصومه من العلمانيين مستفيدا من سكوت الأحزاب على هذه الحملة بسبب الصدمة التي سيطرت عليها لحجم الإقالات في مؤسستي الجيش والقضاء الحاميين الرئيسيين لقيم الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك.

وطبيعي أن يجد أردوغان الفرصة مواتية ليسدد ضربات لوسائل الإعلام التي وقفت شوكة في حلقه وفضحت الكثير من سياساته، خاصة عندما فتحت ملف فضائح الفساد التي طالت وزراءه والمحيطين به.

وتكشف قساوة الإجراءات المستمرة منذ فشل الانقلاب من حيث الاعتقالات والإعفاءات عن استمرار الخطر المحدق بنظام حزب العدالة والتنمية.

كما تكشف عن أنّ ما أظهرته المحاولة يمثّل رأس جبل الجليد وأن الامتدادات المعادية لأردوغان وحزبه الحاكم متجذرة داخل مؤسسات “تركيا العميقة”، على نحو يطرح أسئلة حول ما إذا كانت السلطة حالياً هي التي تقوم بالانقلاب على المؤسسات التربوية والدينية والإدارية والأمنية التي تعايشت معها، وربما استندت إليها في تمكنها من الحكم.

وتستغرب أوساط تركية مراقبة من لجوء أنقرة إلى الصدام مع المجتمع من خلال استهداف الآلاف من الموظفين وإشعار موظفين آخرين بأنهم معرّضون لإجراءات الملاحقة والعزل وفق شبهات مزاجية انفعالية لا تليق بأداء الدولة بالمعنى المؤسساتي والحرفي.

واللافت أن استخدام رئيس الوزراء بن علي يلدريم لتعابير تعِدُ بعدم اللجوء إلى سياسات انتقامية تتناقض مع ما يمارس حالياً، بمعنى أن الحكومة تعي تماماً المفاعيل العكسية للتدابير الانتقامية التي تضع النظام السياسي وجها لوجه أمام المجتمع المدني والمؤسسة العسكرية، كما يقسّم الأتراك إلى معسكري من معنا ومن ضدنا، وأن الانتقام سيولّد لا شك انتقاماً مضاداً سينفجر بأشكال متعددة.

ويشير المراقبون خاصة إلى غياب من يحث الرئيس التركي على التهدئة تجاه الحلفاء الخارجيين، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذين تشترك معهما أنقرة في علاقات اقتصادية وعسكرية متشابكة.

ويعتقد البعض في الإدارة الأميركية أن اعتقال الآلاف من ضباط الجيش والشرطة والقضاة وأعضاء النيابة في أعقاب الانقلاب الفاشل فيه قدر كبير من التمادي، خاصة في ظل تلميحات تركية إلى أن واشنطن ربما تكون قد ساندت محاولة الإطاحة بأردوغان، وهو ما يرفضه الأميركيون بشدة.

واعتبر وزير الخارجية الأميركي جون كيري أن تركيا لها الحق في مقاضاة من شاركوا في الانقلاب لكنه حذرها من التمادي انطلاقا من مخاوفه على حقوق الإنسان والديمقراطية في دولة رئيسية من أعضاء حلف شمال الأطلسي.


صحيفة العرب