كانت ليلة تعادل 10 آلاف سنة مما تعدون، توقفت الأنفس وإبتلعت الألسن  وتسمر الجميع أمام شاشات التلفزة ليشاهدوا ما يحصل.
كانت أنقرة الحدث وإسطنبول عاصمة الفاتح تعيد  وصل القلق بين آسيا وأوروبا.
رجب طيب أردوغان كان الهدف وخلفه حزب لم يدرك الخصوم أنه شعب وصل حدود الهذيان برئيسه.

إنقلاب فاشل:

وقع ليل أمس إنقلاب فاشل في تركيا ضد حكومة العدالة والتنمية والرئيس التركي المنتخب رجب طيب أردوغان. إستطاع الإنقلابيون منذ الساعات الباكرة من الليل السيطرة على معظم المرافق الأساسية في أنقرة وإسطنبول، وقاد الإنقلاب مجموعة من ضباط الجيش التركي بعد أن أسروا رئيس الأركان.
تغيرت الأمور بعد أن أطل أردوغان وألقى كلمة مختصرة كانت كفيلة بوقوع إنقلاب على الإنقلاب الموجود، فإختلفت الأمور بطريقة دراماتيكية لصالح السلطة الشرعية ونزل الشعب إلى الشوارع مؤيدا رئيسه.

غباء الإنقلاب:

من خطط لهذا الإنقلاب كان  رجل يعيش في أوهام الماضي، ولم يدرك جيدا أن تركيا اليوم غير تركيا الأمس.
أضف أنه لم يقدر العلاقة الوثيقة التي تربط أردوغان بشعبه ولا الإجراءات التي بدأها أردوغان منذ وصوله إلى السلطة بخصوص تقليص صلاحيات ودور الجيش في المعادلة السياسية الداخلية.
فالجيش التركي كان حارس العلمانية في الماضي وكانت الإنقلابات التي نفذها مستندة إلى مواد دستورية وقانونية عندما كان يشعر بالخطر على العلمانية التي حددها كهوية وعقيدة للدولة المؤسس مصطفى كمال أتاتورك.
أدخل أردوغان تعديلات على الدستور لتغير مهمة الجيش وتختصرها في مهام الدفاع عن حدود الوطن وصد العدوان.
كذلك وقع المخططون لهذا الإنقلاب في فخ لعبة:"  الأمر الواقع"،  فكانوا يأملون تعاطفا دوليا معهم وهذا ما لم يتحقق لهم على الرغم من بعض التصريحات الملتبسة لبعض الدول في البداية كأميركا.
أخطاء الإنقلابيين لا تتوقف هنا بل يضاف إليها عدم وجود تقدير صحيح للإصلاحات والإنجازات الإقتصادية التي حققتها حكومات العدالة والتنمية التي أعطت أردوغان شعبية قوية إكتسحت جميع الإنتخابات المحلية والنيابية والرئاسية منذ 2002، وهذه الإصلاحات الإقتصادية زادها زخما رمزية تأسست لشخص " السلطان"  في عقول ووعي وقلوب أكثرية الشعوب العربية والإسلامية بعد موقفه من إسرائيل فأسس لتركيا دورا عابرا للحدود.
بالإضافة إلى الثقافة المدنية التي تتبنى الديمقراطية وترفض حكم العسكر والجيش.

التغطية الإعلامية ودلالاتها:

بعيدا عن الذين هللوا لنجاح الإنقلاب في البداية ومن ثم غابوا عن المشهدية بعد رجحان كفة الأمور لصالح أردوغان وهؤلاء معظمهم من العامة ومن يسمون أنفسهم نخب لا ينظرون ببعد ورؤية بل يعيشون إنفصاما بين مشاعرهم ومصالح أحزابهم وإعلامهم.
طيلة ليل أمس كانت ملفتة تغطية قناة " الميادين"  المقربة من إيران للحدث التركي وطغى على فترات تغطيتها أخبار تبشر بفشل الإنقلاب وتساند أردوغان.
فيما على الضفة الأخرى كانت " العربية"  السعودية و " سكاي نيوز " الإماراتية تنشران  أخبار لصالح الإنقلابيين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أول قناة نقلت خبر عن بيان الإنقلابيين بتسلم السلطة كانت قناة العربية، وهذا له دلالات كبيرة.
من المبكر الحكم عليها،  ولكن يمكن التكهن أن هناك في السعودية والإمارات من كان فرحا بهذا الإنقلاب وينتظر سقوط أردوغان، يضاف إليهم قنوات مصرية مقربة من السيسي، فيما كانت "الجزيرة " القطرية إلى جانب موقف أردوغان.
الموقف الأميركي كان ملتبسا،  والروسي شامتا أما الإيراني فكان الأكثر حذرا في إختيار كلماته خصوصا لتداعيات هذا الإنقلاب لو نجح على الداخل الإيراني في ظل الحراك الكردي.

توقيت الإنقلاب:

مهم التوقف عند توقيت هذا الإنقلاب، فهو جاء في فترة كان أردوغان يعيد " تصفير المشاكل"  مع دول العالم كإسرائيل وروسيا، وصدرت مواقف عن رئيس الحكومة التركي يلداريم عن تطبيع للعلاقات مع سوريا بعد سقوط الأسد.
وفي السياسة يعتبر هذا تراجعا لأردوغان وهذا ما شجع الإنقلابيون على فعلتهم. كان أردوغان في لحظة تراجع فحاولوا الإنقضاض عليه، لكنه حول التهديد إلى فرصة.
ولا يخفى أن التقارب الأميركي - الروسي حول سوريا،  والصلة الوثيقة التي تربط الجيش التركي بالناتو ودلالات هذا الأمر قد تفهم في إختيار هذه اللحظة الدقيقة للقيام بالإنقلاب.

ماذا بعد الإنقلاب: 

الملفات التي عمل عليها أردوغان متعددة ومتشابكة، لا شك أنه يعاني في سوريا خصوصا لكنها ليست بالشكل الذي يقدم في الإعلام، فداعش تضرب تركيا كما تضرب سوريا.

والملفات الداخلية ثقيلة هي الأخرى، منها وضع دستور جديد للبلاد وتحويل الحكم إلى رئاسي والسيطرة على مؤسسة الجيش التي تتحكم بمؤسسات وشبكة شركات إقتصادية في تركيا. ما سيحصل بعد الإنقلاب ليس كما قبله بطبيعة الحال، فلا شك أن الإنقلاب كان صفعة لأردوغان لكنه سيستثمرها لصالحه. ستتحول إهتماماته أكثر على البيت الداخلي، فينظف مؤسسة الجيش والدولة مما يسمى " الكيان الموازي" أي جماعة فتح الله غولن وسيمسك أكثر بالمؤسسة العسكرية.

لن يتوقف أردوغان قبل أن يحول الحكم في تركيا إلى رئاسي ويضع دستور جديد، وهذه المرة ستكون الغالبية الشعبية معه. في هذا الوقت، سيكون هناك مرحلة إنتقالية ينشغل فيها بالملفات الداخلية ويقل إهتمامه بالوضع الخارجي وخصوصا السوري، وهنا ستسجل مفارقة أن الجهات وراء هذا التمرد عن قصد أو غير قصد قد تكون نجحت من خلال حركة الإنقلاب هذه في إشغال أردوغان عن الملف السوري. لكن تبقى طموحات الرجل بعيدة، فهي مرحلة ستنتهي، ليكمل ما بدأه.

ولا يمكن إلا التوقف عند موقف الأحزاب التركية جميعها، معارضة وسلطة، والتي أجمعت على إدانة الإنقلاب والتمسك بالديمقراطية، فالمنتصر الأول كان الشعب التركي الذي تمسك بالحرية والديمقراطية وواجه الدبابات بصدور عارية تعبيرا عن الرفض لهذه التصرفات، وهذا جيل شبابي بمعظمه تربى على الديمقراطية ويرفض ثقافة الإنقلابات ورسالة مدوية لحكام وشعوب الدول العربية والإسلامية، فالشعب أعطى كلمته النهائية وحمى رئيسه المنتخب فيما رؤوساء معظم الدول العربية والإسلامية يحتمون بالجيش ضد الشعب ويرتكبون المجازر ويقصفون المدن ويهجرون سكانها.

والتساؤل حول هذه القضية بالذات هو حول طريقة تعامل أردوغان مع هذه الأحزاب المعارضة وهل سيكرر نفس الأخطاء السابقة معها أو سينفتح عليها؟ فيما الحذر يبقى سيد الموقف، فالأمور لن تنتهي سريعا، وقد يراهن المخططون للإنقلاب على ردات فعل سريعة وغاضبة من أردوغان تنفر المجتمع منه فيضربون من جديد لاحقا وبإعداد جيد.

أما غولن فظهر توقيت إدانته للإنقلاب مريب جدا، فأصدر بيانه بعد بدء إنقلاب الأمور لصالح أردوغان وهذه فرصة سيستغلها أردوغان للقضاء نهائيا على البديل الإسلامي لمشروعه المتمثل بالرجل وهو مشروع إسلامي تركي ينشر الثقافة والأفكار التركية حول العالم، وجاء تصريح رئيس الحكومة التركي الذي أعلن فيه أن كل دولة لا تسلم غولن أو تحميه ستكون دولة معادية وهي رسالة واضحة وجريئة بإتجاه الولايات المتحدة الأميركية التي تستضيف غولن.

لحظة الحقيقة كانت إنتصار:

لم يعرف عن أردوغان أنه خاض معركة في السياسة أو العسكر وهزم فيها.

رجل مؤمن، متشبث بتاريخ أجداده السلاطين ومتمسك بأرض خيضت عليها معارك رسمت تاريخنا وحاضرنا. رجل ذو رؤية، تتلمذ على يد أستاذ من طراز نجم الدين أربكان ، وتفوق على من سبقوه.

رئيس قريب لشعبه، يرفض الظلم لتركيا ويخاطر بكل شيء من أجل مستقبل بلده. لقد حول التهديد إلى فرصة، وساعده غباء أعدائه، فبعدما كان رمزا أصبح أسطورة.

ليس صدفة أن يختار إسطنبول منصة ليعلن إنتصاره، سبقه محمد الفاتح وإحتل العالم.