ما يلبث أن يبدأ فصل الصيف في عاصمة الشمال، حتّى تتدفق أفواج من العائلات الطرابلسية الفقيرة، نحو المسبح "الشعبي" القابع على شاطئ مدينة الميناء. 

فمن قُبالة الفاخورة وحوش العبيد وحارة "قواص الحمام"، وصولاً إلى رأس الصخر، يمتد هذا المسبح الذي يفتقد إلى أدنى متطلبات الأمان، ويستقطب يومياً المئات من عشاق البحر، الذين لا يستطيعون الذهاب إلى المنتجعات الممتدة على طول الشاطئ الشمالي، نظراً لارتفاع أسعار دخولها، مقارنة مع أوضاعهم المادية "المتردية". 

المسبح رغم هشاشة مقوماته، يتحوّل كلّ صيف إلى خريطةٍ تتقاسمها أجساد الاستجمام. البعض، يستلقي تحت أشعة الشمس على رملٍ حارقٍ اختلطت معه بقايا الأوساخ وشظايا الزجاج، والبعض الآخر، يغطس متحمساً في الماء غير آبهٍ لتلوثها بمجاري الصرف الصحي.

اللافت في الأمر، أنّ ثمّة إدراكاً مسبقاً من رواد هذا المسبح، للحالة الخطرة التي يُعرضون أجسادهم إليها، مع انعدام شروط السلامة والصحّة العامة. وإن أقدمت على سؤال أحدهم عن سبب المجاذفة بصحته وصحة أطفاله، يعتبر أنه في ظلّ غياب الرقابة، تبقى "المجاذفة" هي الخيار الوحيد، من أجل ممارسة حقّ السباحة في فصل الصيف، كسائر العائلات الميسورة، التي ترتاد المنتجعات "الفخمة". فيما يعلّق آخر، أن "مسبح الميناء هو المتنفس الوحيد لأولاد الفقراء، أيام الصيف الملتهب". 

كوارث بيئية
الحديث عن التلوث قد يكون ناقصاً أمام ضخامة الواقع. ومسبح ميناء طرابلس، لا يقتصر حلّ أزمته على حملة تنظيفٍ ترفع الأوساخ المرمية هنا وهناك، إنما يحتاج إلى إعادة تأهيلٍ ومسحٍ منظمٍ ينفض العمق. فالزائرون والعابرون على "الكورنيش" من أمامه، يشاهدون يومياً، هول النفايات المتداخلة بالحجارة والخشب والتنك والصخور والزجاج. ويستنشقون رائحة أقنية الصرف الصحي والمياه المبتذلة التي تصبّ على جانبي المسبح من أوله حتّى آخره. 

وما يعقّد ضراوة المشهد، أن الأطفال والشباب الذين لم تردعهم ظروف المسبح، يعودون مساءً إلى منازلهم، بأجسادهم المبللة من البحر، بسبب غياب "كابينات" لتبديل الملابس وحمامات "الدوش". 

نشأة المسبح
في صورة معاكسة، شهد مسبح الميناء في أولى سنوات إنشائه ذروة الانتعاش. ففي عام 2004، جاء قرار تدشينه، مع سلسلة إجراءات تنظيمية فرضتها وزارة الأشغال العامة والنقل. وقد رمت المبادرة إلى افتتاح "مسبحٍ مجاني"، يستقطب الطبقات الفقيرة، ويكون مجهزاً على غرار المنتجعات المنظمة، حيث خُصِّصَ له برج مراقبة وفريقاً للإنقاذ وكادراً بشرياً لتنظيم الدخول وتأمين النظافة العامة، ناهيك بتأمين عددٍ وافرٍ من "الكابينات" والطاولات والمظلات والكراسي. إلا أنّ عدم تنفيذ وعود نقل مجارير الصرف الصحي التي تصبّ فيه إلى مكانٍ آخر، والتقاعس عن إنجاز محطة التكرير، أديا إلى رفع يد الرعاية عنه ومن ثمّ اتخاذ وزارة الأشغال قراراً بإغلاقه. 

لكنّ المسبح الذي لم يتبقَ منه إلا السور الحديدي الذي يحيط به، تحوّل من "مسبحٍ شعبي" مجاني إلى "مسبحٍ عشوائي" ملوّث، من دون رقابة البلدية ووزارة البيئة المعنية باتخاذ التدابير الوقائية التي تمنع خطر التلوث وخطر غرق المواطنين.

المسبح البلدي
مشكلة المسبح في ضرره البيئي والصحي. والحل يفترض أن ينطلق من معالجة أسبابهما حتى يستعيد شاطئ مدينة الموج والأفق أمجاده. وفي هذا السياق، يقول رئيس لجنة رعاية البيئة في بلدية الميناء المهندس عامر حداد في حديثٍ إلى "المدن"، إن حالات الغرق وعدد المرضى الذين تأذوا بعد نزولهم إلى المسبح تستوجب حلاً حتمياً، لأن منع المواطنين الذين يرزحون تحت خطّ الفقر من ارتياده يُعدُّ قراراً ظالماً. وهذه المسؤولية، وفق حداد، تقع على عاتق مجلس الإنماء والإعمار الذي قال مسؤولوه إن ربط أقنية الصرف الصحي بمجرى واحد بعيداً من شاطئ السباحة، سيتمّ بعد 6 أشهر. 

تحميل المسؤولية إلى مجلس الإنماء والإعمار لم يأتِ عن عبث. فإتمام هذه المهمة يعد استكمالاً لمشروع مدينة الميناء الذي يقوم على تشغيل محطة التكرير عند مدخل المساكن الشعبية. وحداد الذي يعتبر أن وزارة الأشغال لم تولِ العناية اللازمة لمسبح الميناء كونه من الأملاك البحرية التابعة لها، يرى أن "المشكلة تكمن في عبارة المسبح الشعبي، الذي يلتبس معناها على الناس، فيتحول إلى بؤرةٍ للتلوث والفوضى، بدلاً من تحسين ظروفه من أجل رفع مستوى الطبقات الفقيرة". يضيف: "عندما ننتقل من مفهوم المسبح الشعبي الفوضوي إلى مفهوم المسبح البلدي المنظّم، ستنفتح أمامنا طاقة الحلول والإنماء أكثر وأكثر".

 

جنى الدهيبي