مهما بدا وضعنا ميؤوسا منه وربيعنا تحول شتاء في نظر البعض، لا يجب أن يغيب عن بالنا أن الثورات العربية أطلقت ديناميّة عميقة افتتحت سيرورة وعي لا عودة عنها؛ فالوعي الفردي الحاصل عند المواطن العربي نتج عن اختمار العوامل المتشابكة التي تعرّضت لها المنطقة منذ سقوط السلطنة العثمانية الإسلامية المتزامن مع سيطرة الاستعمار، وما نتج عنه من استعمار مبتكَر غير مسبوق، ألا وهو احتلال فلسطين. لقد ترافق تشكّل الدول الوطنية العربية في المنطقة مع شعور "باللاشرعية" لأنها اعتُبِرت كتجسيد للتجزئة والانقسام وعدم تحقيق "الوحدة العربية".


 

    الدولة الوطنية "غير الواثقة من شرعيّتها" التي تشكلت في تلك المرحلة فشلت فشلا ذريعا سواء على مستوى الأمن القومي (عدم تحرير فلسطين ونكسة عام 67) أو الاجتماعي والثقافي والسياسي، أي التنمية بمجملها. فلجأت إلى الاستبداد وصادرت الحرّيات باسم "المعركة". وبدل بناء قدرات عسكرية دفاعية قادرة على صد عدوان إسرائيل، أهدرت مقدرات الدولة على الأجهزة الأمنية والفساد والمحسوبيات وتحوّلت الجيوش إلى قمع الداخل بدل تحرير فلسطين.


 

    إحدى آليات المواجهة التي اعتمدتها الدولة (ذات الطابع والسمعة العلمانيّين) بُعيد الهزيمة، كي تضفي شرعية مفتقدة، كان لجوؤها إلى الدين. أدّى ذلك إلى انتشار الأيديولوجيات والحركات الدينية التي صاحبت المذاهب الأصولية. وإلى نموّ تيارات دينية جعلت المسبِّب الرئيسي للفشل استبعاد الإسلام وعدم الأخذ بأحكام الشريعة؛ من هنا الشعار التبسيطي الغائم "الإسلام هو الحلّ"، من دون بلورة أيّ استراتيجية أو برامج سياسية أو اقتصادية. لكنّ هذا لم يمنعها من أن تلقَى الصدى لدى الشعوب التي تعتبر الإسلام دينها ومرجعيّتها.


 

    لجأت الدولة إلى الدين كركيزة لتمكين حكمها لأنه يعتبر جزءا مهما من تكوين الهويات الجماعية. ولقد وجد المسؤولين في الدولة، ومعهم العاملين في مجال السياسة أن التلاعب بتلك الهويات فيه فائدة لهم لاعتقادهم أن التفسير المحافظ للدين يشكل أساسا لضمان الشرعية الشعبية لحكمهم. ولقد جرى استئصال ممنهج للأعراف العلمانية التي غرست داخل مؤسسات الدولة القومية في زمن عبد الناصر منتصف القرن العشرين.


 

     النتيجة كانت أسلمة المجتمع مع انتشار التفسير الأكثر رجعية للدين والتشجيع على نشر الكتب الدينية المتشددة من قبل الجهات الرسمية ما سمح بالابتعاد عن الرؤية المتحررة للإسلام واعتدال رجال الدين التي شجع عليها عبد الناصر. والأدهى من ذلك امتزاج سيادة الدولة الوطنية بالشرعية الدينية. كل هذا ساعد على انتشار تيارات الإسلام السياسي


 

    يتراوح تعريف الإسلام السياسي بين اعتباره استجابة لتحديات الحداثة الغربية أو حتى محاولة تجديدية تستعيد روح الإسلام متصلا بواقع جديد، وبين من يراه رد فعل على ما بدا تهديدا لهوية المجتمعات الإسلامية بعد صدمة الاتصال بالغرب، ومن يعتبره رد فعل على أزمة تأسيس الدولة الحديثة في عالمنا الإسلامي وأزمتها لاحقا؛ لكن هناك من يراه نكوصا وارتدادا وتوظيفا سياسيا للدين.


 

    هذا الإسلام السياسي الذي نعاينه، من حركة الإخوان إلى ولاية الفقيه، يمثّل انقطاعا في التجربة التاريخية الإسلامية التي تنظر عادة إلى المجتمعات المسلمة باعتبارها إسلامية، حتّى ولو شاب النقص بعض تصوّراتها وممارساتها


 

    ومن سمات الإسلام السياسي أنه يدمج قسرا بين الديني والسياسي ولا يعترف بأيّ تمييز بينهما على خلاف التجربة التاريخية الإسلامية التي عرفت تمايزا بين الديني وبين السياسي. فالباحث في التاريخ الإسلامي يلاحظ التمييز بين أهل السياسة والسلطان وبين أهل الدين والعلماء. يتوضح الدمج المستجدّ في أفكار أبي الأعلى المودودي وسيّد قطب، لكنّه بدا أكثر تأثّرا بالثورة الإيرانية وولاية الفقيه التي أقام عليها الخميني دولته الإسلامية.


 

    تسهم ممارسات إيران في محاولاتها للهيمنة على البلدان العربية عبر استخدامها ورقة فلسطين والقدس وتحرير جنوب لبنان من أجل وضع اليد عليه، في تأجّيج الصراع المذهبي واستعادته كامل لياقته. الصراع السنّي/ الشيعي هو في أساسه صراع سياسي على السلطة ولا يزال. فثورة الخميني استُقبلت باحتفاء بالغ في الأوساط الشعبية العربية السنية، ومن قبل التيارات اليسارية والقومية والإسلامية، باعتبارها ثورة وطنية ديمقراطية، ولم يُنظَر إليها كثورة دينية أو مذهبية. لكنّها سرعان ما لبست لبوس الإسلام وقدّمت نفسها ثورة إسلامية للتغطية على مذهبيّتها، وقد زيّنت لنفسها أنّها تشقّ "طريقا ثالثا". لكنّ ممارساتها كانت أكثر ممّا تحتمله خريطة المنطقة، وهي شكّلت أهمّ عامل في تصديعها.


 

    من هنا بروز ردّة فعل سنّية عبّرت عن نفسها في التنظيمات الإسلامية المتكاثرة من القاعدة وصولا إلى داعش وتشظياتها، مشكِّلة جاذبا مغناطيسيا لكلِّ من اعتقد أن العالم الإسلامي يتعرّض لهجمة استعمارية غربية على رأسها الولايات المتّحدة الأمريكية، فضلا عن كلّ مَن يعتقد أن النظام العربي الرسمي عاجزٌ عن أن يكون ندّا للهجمة الخارجية من جهة، وفاشلٌ، وقامع لتطلّعات المجتمعات العربية نحو الحرّية، وناهب للثروات الوطنية من جهة ثانية.


 

 الصراع السنّي الشيعي


 

    يعود طغيان الانتماء المذهبي على الانتماء الوطني والعربي في جزء كبير منه إلى ممارسات الدول الاستبدادية التي قَمعت مكوّناتها الثقافية من دينية ومذهبية وإثنية ولغوية، ما جعل قمعها وعدم اعترافها بالآخر يوهمها بالتجانس والوحدة. فبعد عقود من الشعارات الوحدوية والتسلّط الأحادي لحزب واحد وزعيم أوحد يورِث جمهوريته لنسله، جرى إخفاء كلّ التناقضات الاجتماعية والإثنية والدينية والمذهبية.


 

    لكنّ انفجار الصراع مؤخّرا وبروز ما سمّي مسألة/ مشكلة الأقلّيات يبيّن أن الوحدة القسرية داخل أنظمة البعث خصوصا، كانت تجميدا/تجليدا للصراعات في ظلّ أنظمة قمعية غير ديمقراطية، لا تعترف بحقوق المواطنة ولا بالتعدّدية. فإضافة إلى إيران هناك الدور الذي لعبته الأصولية السنّية (الوهابية) وتجربتها الأفغانية في صعود التيارات المتشدّدة وبروز العصبيات. وكذلك فشل ما سمّي "الدولة الوطنية" ما بعد المرحلة العثمانية في القيام بمهام التنمية والتحرير الوطني وفي تحقيق دولة المواطنة والمساواة انتج ما يمكن أن نسميه "مشكلة تسمّى الأقليات" في العالم العربي.


 

    لكن بعيدا عن المغالاة، لا شكّ أن الشيعة العرب كانوا دائما أقلّية مستبعَدة ومهمشة، اجتماعيا وسياسيا. وبروز الإسلام الشيعي بقوّة في إيران عزّز طموح هذه الجماعات وتسبّب تاليا بقلق حكومات المنطقة. السؤال هو فيما إذا كان يُفترَض، تبعا لذلك، التفكير في ما إذا كان هؤلاء الشيعة يشكّلون "طابورا خامسا" لطهران؟ سيكون ذلك من باب التبسيط الخاطئ، لأنهم أيضا عرب، حتّى لو كانت أصول البعض منهم في الخليج إيرانية. والعروبة تحديدا تطرح عليهم مشكلة اختيار الهويّة: أيكونون شيعة قبل كلّ شيء، ما يفترض بهم أن يُديروا وجوههم نحو الوطن الجديد للشيعية، الذي تجسّده إيران آيات الله؟ أم هم عرب أولا، يمارسون مذهبا مختلفا في الإسلام، ويحصل الاعتراف بهم كعرب وكمسلمين متساوين في المواطنة والحقوق؟ يتوقّف الجواب عن هذه التساؤلات على نجاح السياسة الهجومية التي تتبعها إيران أو فشلها. كما يتوقّف الأمر على نجاح الدول والحكومات العربية في مراجعة سياساتها جذريا، في ما يتعلّق بالأقلّيات على أنواعها.


 

    إن أزمة هويّة العرب الشيعة في بلادنا تقودنا إلى تساؤلات تتخطّى المجال الطائفي لتطال اندماج هذه الجماعات في أنظمة ومجتمعات ذات أكثرية. وهذه المسألة ليست بسيطة تُطرَح للبحث والنقاش فحسب، بل يتوقّف على حلّها استقرار منطقتنا.


 

أين الثقافة من كل ذلك؟


 

    إذا اعتبرنا الثقافة كنمط وجود وطريقة تعامل مع الآخر، وطريقة في رؤية العالم وطريقة في التأويل وفي النظر وفي ترتيب أشياء العالم وحدوده تضم الأدوات وأمتعة الاستهلاك، والمواثيق العضوية التي تنظم مختلف التجمعات الاجتماعية، الأفكار والفنون، المعتقدات والأعراف. تكون إذن ليست فقط الإنتاج الفكري، لكنها أيضا عدم البصق في الشارع لأن الحفاظ على النظافة وعلى الصحة وعلى آداب السلوك، كما القيم عموما، هي أيضا تعبير عن المستوى الثقافي لمجتمع ما.


 

    ذلك يعني أن الثقافة هي تعبير عن ما تنتجه دينامية المجتمع ككل انطلاقا من النظام السياسي بالتأكيد ومن عمل الوزارات ومن القدرة على التنسيق والتناغم بينها في تطبيق برامج تنهض بالمجتمع ككل من التربية إلى الصناعة إلى الصحة و. و. إن شرط التنمية الشاملة للنهوض بالمجتمعات العربية ولبروزها على الصعيد الثقافي العالمي هو النظام الديمقراطي التعددي الذي يحفظ التنوع ويؤمن بالمساواة في الحقوق والمواطنة والتي في أساسها الحريات وخصوصا حرية الرأي والتعبير.


 

    إن أهم المعيقات أمام التقدم في الميدان الفكري والمعرفي تتجسد في الرقابة التي تمنع إمكانية الحصول على المعلومات والبيانات Informations وهذا ما يمنع إمكانية المساءلة والمحاسبة شرطا الشفافية في نظام ديمقراطي.


 

    والرقابة هي أحد أهم معوّقات حرية الفكر وهي تمارس في الميدانين الديني والسياسي وتنعكس على الميدان الفكري وتمنع ازدهار ما يعرف بالثقافة.


 

    الرقابة على الصعيد السياسي تتم تحت شعار عدم معارضة الحكم. وهذا أمر غريب ومناف لحرية الرأي والفكر، فما معنى رفع شعار عدم معارضة الحكم والنيل من كل من عليه شبهة مماثلة؟ معناه أن نسمح بالاستبداد، لأننا نمنع من ممارسة حق المساءلة والمحاسبة عبر الانتخابات وهذا شرط الشفافية في الديمقراطية. إن معارضة الحكم، عندما يخطئ أو لا يعبر عن طموح المواطنين، هو حق بديهي في النظام الديمقراطي! التحريم الوحيد هنا هو استخدام العنف. أما المعارضة السلمية فهي حق وواجب بديهيان وهي في أصل تداول السلطة.


 

    أما الرقابة على الثقافة التي تمارس باسم الدين على جميع أنواع الإبداع؛ فهي أداة القمع للديناميات التي تساعد على النهضة الثقافية وفي طليعتها تلك التي تساعد في تطوير فهمنا للدين.


 

    يترجم ذلك على المستوى الديني بتعطيل إمكانية اتخاذ مسافة من التراث والتعامل معه كنصوص تاريخية: أي الاستفادة من النزعة الإنسانية التي عرفها الغرب، وهي عبارة عن اغتراب ولا تمركز، أثرت العلوم الاجتماعية بأن فرضت نمطا أكاديميا معينا في قراءة الوثائق الأدبية وتأويلها. هذا التأويل يعلّم نسيان حشد المواقف المسبقة ويساعد على طرح الأسئلة بأشكال معاصرة وجديدة ومختلفة. وأهم الوثائق المراد فهمها كانت بالطبع الكتب المقدسة.


 

    ومن هنا بروز حركة النقد الديني التي تجلت في حركة الإصلاح البروتستنتي التي دعت إلى حرية تأويل النصوص المقدسة. فهي أزاحت أنماط الشرعية السياسية المتعالية والحق المقدس، باعتبار أن شرعية السلطة يجب أن تكون نابعة من التعاقد الاجتماعي.


 

    سبق لأوروبا أن عانت من صراعات الهوية الدموية، واستطاعت أن تتخطى مشاكلها عندما اعتمدت القانون مرجعا وحيدا للعلاقات بين الناس كمواطنين متساوين، وعندما اعترفت بحرية العقيدة المطلقة أو حرية الضمير وفصلت بين الدين والحكم السياسي، وعندما نمّت الإنسان وحسّنت ظروفه على جميع الصعد، الرمزي منها والاجتماعي والاقتصادي، وأعطته تربية متوازنة ومنسجمة مع أهداف المواطنية.


 

   وعندما تعاني بلداننا مما تعاني منه من تمزق وتشرذم وهجمة قوى ذات أطماع تاريخية لا بد من ممارسة سياسة التمييز الإيجابي بأفضل صوره. إن الخروج من الوضعية التي نطلق فيها على سمة التنوع التي نتمتع بها أسماء من مثل "أقليات" مقابل "أكثريات" فذلك يتطلب في مرحلة أولى أكثر من المساواة، يتطلب ممارسة "التمييز الإيجابي" (على شاكلة الكوتا للنساء) وعلى جميع الصعد لهذه "الأقليات" كي تصل إلى حقوق متساوية، وكي تشعر أنها تعيش في وطنها وليست مضطرة للجوء إلى أوطان أخرى لتحصيل بعض الحقوق المرفوضة لها. وهذا يتطلب حركة إصلاح ديني جذرية.


 

    لذا لا يمكن الحديث عن نهضة ثقافية وفكرية دون محاربة الرقابة وإتاحة الحريات الشخصية والسياسية والفكرية من دون قيد سوى تحكيم الضمير واحترام القانون واحترام حرية الآخر وعدم اللجوء إلى العنف أو الخضوع للمال.


 

    إنّ المجتمعات العربية مدعوّة للتصدّي بحزم لظاهرة التكفير السياسي التي انتشرت منذ السبعينيات ووجدت في مناخ الثورات العربية حافزا قويا لمزيد من الاستفحال.


 

    إن اعتبار كلّ إنسان «كافرا» من وجهة نظر من يخالفه الدين والعقيدة، فذلك يعني تشريع اعتداء البشر على بعضهم البعض بالقتل، وتوظيف الأحكام الدينية للتخلص من الخصوم السياسيين أو المخالفين في الرأي. إن ممارسة المعارضة السياسية أو الوصول إلى الحكم لا يمكن أن يكون إلا بالوسائل السلمية باستعمال وسائل المعارضة العادية، وليس الفتاوى.


 

    "ثقافة" داعش لم تسقط من السماء، ولم تظهر فجأة وبالمصادفة، إنها وأخواتها أحد إفرازات الخطاب الديني والثقافة السائدين في معظم المجتمعات العربية والإسلامية، الخطاب الذي ترعاه الكثير من الدّول والأحزاب وتدرسه في مناهجها، ويتبنى منهج التحريض وإثارة الغرائز والحث على الكراهية والحقد والعنف وإحياء الخرافات الدينية. إنها إحدى ثمار المسار الفقهي التحريمي والتكفيري.


 

من المعيب أن نرى مناهجنا الدينية لا تزال تتحدث عن مفاهيم البيعة والطاعة والجماعة، وعن الغزوات والغنائم والسبايا، وعن الحريم والمحرم والعورة، وعن دار الحرب ودار الإسلام في عصر العالم الافتراضي.


 

    هذا الخطاب الديني هو جزء من خطاب الدولة الذي ترعاه جامعاتها ووزاراتها ومدارسها، وتنفق عليه من الموارد العامة. من هنا ضرورة أن تغير الدولة الوطنية سياساتها والتربوية خصوصا كما خطابها كي نحقق فصل الدين عن الدولة.

منى فياض

موقع الهلال