لم يكن سهلاً عليه اتخاذ القرار بالاستقالة من الحكومة، فإيجابيات البقاء كانت دوماً تطغى على سلبيات الرحيل. هكذا كان رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل في حالة صراع داخلي قبل اتخاذ القرار. إستغرب قبل فترة في مجلس خاص في بكفيا، كيف تراجع الاهتمام الدولي بلبنان عند تشكيل الحكومة، من استنفار دبلوماسي يطلب من الجميع المشاركة فيها، الى لامبالاة قاتلة، عندما تعثرت، وارتطمت بكل شيء، كأنها تيتانيك الفراغ والاهتراء. لم يكن القرار بالاستقالة بعيداً عن ذهن الجميّل، لكنه نضج أخيراً، فكان قراراً كبيراً بالخروج، لا يمكن إسقاط احتمالات نتائج الروليت من الحسابات المتعلقة به، قرار يشبه الحفر في الصخر، والبداية من الصفر، كأنها البداية التي تتجاوز كونه رئيس حزب تاريخي وتقليدي، الى تقديم نفسه كنموذج لمدرسة سياسية حديثة، تطمح لأن تطبّق معايير جديدة، في الأداء والالتزام.

يبدو الجميّل كأنه يبدأ من الصفر، يَفتتح مدرسة جديدة، لا مساومة فيها على المبادئ والثوابت، ولا التواء في الأساليب. واجَهته ممانعة وزير الكتائب بالاستقالة، فكان الرد الفوري بأنّ الكتائب ليست دكانة تبيع بالمفرّق، وحسم الاشكال الداخلي بسرعة، ففصلَ الوزير سجعان القزي، وتابع الطريق قائلاً لمَن حوله: الاستقالة ليست سوى محطة في مسار طويل، مسار التمسّك بالثوابت، ورَفض التلبنن في ممارسة الشأن العام، بمفهوم اللبننة التقليدية، فحيث لم يعد على طاولة مجلس الوزراء مكان للسياسة بأمر من رئيس الحكومة تمام سلام، وحيث لم يعد هناك إمكانية للاعتراض من داخل على الملفات الاساسية، باتت المواجهة من الخارج هي الحل، هذه المواجهة التي يقول الكتائبيون إنها تتدرّج لكي تصِل الى الشارع في حال اقتضَت الضرورة، ولن يكون ملف ردم البحر بالنفايات الملف الاول أو الاخير الذي يمكن ان يضطرّ الكتائب الى النزول الى الشارع.

المعركة التي تبدأ من الصفر، تعني للكتائب يداً ممدودة لكل القوى والشخصيات وللمجتمع المدني، كي يكون الجميع في مواجهة واحدة في وجه اهتراء الدولة ومؤسساتها. هي معركة رأي عام بدأت ملامح تَشكّله تَنبت، وما الانتخابات البلدية الأخيرة سوى مؤشّر على ما سيأتي.

معركة الرأي العام ستعبّر عن نفسها بدعوة الرئيس تمام سلام لاستقالة الحكومة، فلا خوف من الفراغ، لأنّ حكومة تصريف الاعمال قادرة على الاستمرار، ولأنّ هذه الاستقالة يجب أن توظّف، لتسريع إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وليس لتأبيد الفراغ.

لن تنضمّ الكتائب لثنائية الثنائي المسيحي، لتصنع منها ثلاثية هجينة، تقوم على مجرّد قرع الأجراس. الأجراس ستقرع حسبما يقول الكتائبيون، لمنطق الدولة الحديثة، للشراكة الاسلامية- المسيحية، ولكن من دون نفاق. الأجراس ستقرع للجيل الجديد العابر للطوائف، الذي عبر جزء منه الى الآخر المختلف، فيما الجزء الآخر ينتظر العبور. هؤلاء هم الحلفاء الحقيقيون، الذين يرفضون التطبيع مع الأمر الواقع السيئ. معهم يمكن إنجاز العمل الجدي في الكثير من الملفات الاقتصادية والوطنية.

رحلة الكتائب التي بدأت بالقرار الجذري المتمثّل بالاستقالة من الحكومة، لا شك انها ستكون رحلة صعبة. لكن في المقابل يرى الكتائبيون انّ خيار الاستمرار بحكومة تصريف اعمال مقنعة أصبح أشبَه بخيار الانتحار، الذي لا يمكن تفاديه الّا ببدء مرحلة جديدة، تُعيد بناء بعض المفاهيم، وتُرسي قواعد عمل مختلفة.

ليست مرحلة الحسم بين حرس قديم وقيادات جديدة في حزب الكتائب، بل مرحلة تبدأ فيها مدرسة جديدة في العمل السياسي، يطمح الجميّل ورفاقه الى أن يحجزوا أمكنتهم في مقاعدها الامامية، غير آبهين بمنسوب المخاطرة الذي أنتجَته هذه الاستقالة.

 

 

اسعد بشارة: الجمهورية