مرت التجربة البشرية بفترات زمنية طويلة منذ بدء الخلق، وكانت هذه التجربة صعبة ودموية ومسالمة وناجحة وفاشلة وقاتلة ورهيبة. فهي تجربة مليئة بالتناقضات التي لا يمكن حصرها في تفسير واحد.
بدأت البشرية مرحلة الضمير الإنساني حيث كانت علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة الأم بولدها وبعد أن تبلور الوعي الإنساني وإكتشف ذاته ومحيطه بدأ الإنسان يسخر الطبيعة وقواها لمصلحته، وما عجز عن الوصول إليه وتسخيره خشي منه وإرتعب فعبده.
كانت تجربة الإنسان مع الإله تجربة ناشئة من كائن عاجز عن فهم قوى خارقة بالطبيعة كالشمس والنار والقمر وغيرها فأطلق صفات الإلوهية عليها.
والسؤال هو: كيف ظهرت هذه العلاقة بين الإله والإنسان؟
المتتبع لسيرة التاريخ يرى أن الإنسان كان يدرك معان ومفاهيم عن إله ما ورثها عن أوائل الأنبياء كآدم لكنها وصلت بطرق ومعان مشوهة له.
وانا إذ أتكلم عن مرحلة الضمير الإنساني أقصد فيها مرحلة ما قبل نوح.
عامل الزمن وإنتشار البشر في بقع جغرافية مختلفة ساهمت في تشويه معان مختلفة عن الإله ولكن المحسوم في التاريخ أن تلك الفترة كانت جميع الجماعات البشرية تدين بدين.
منهم من عبد الشمس أو القمر أو النار والصخر أو غيره لكن المشترك أنه هناك فكرة الإيمان بقوة غامضة أقوى من قوة الإنسان.
وعندما بدأ الإنسان صراع الشر وتبلورت فكرة التنافس أو الصراع بمعنى أدق بدأ يخترع آلهة على مزاجه تكون أقوى من آلهة عدوه، وبعض الجماعات أعطى صفة الألوهية لجميع قوى الطبيعة كالرياح والبحر أو لبعض الصفات كالجمال والشر والقوة وغيرها.
كان دين التوحيد بشق عصاه بصعوبة بين فترة وأخرى، وكان يجد صعوبة في السيطرة على الإنسان لأنه واجه ثالوث من الملك والمال والدين الزائف.
هذا التحالف كان نقيض دعوة التوحيد لإله واحد يؤمن بالمساواة بين البشر، فدعاة الدين الزائف معيارهم الدم والعرق والمنطقة أما دين التوحيد فمعياره التقوى.
جاء النبي نوح وأعلن الثورة الأولى والتي كانت بمثابة نقلة نوعية لدين التوحيد ودعاية عابرة للمناطق الشاسعة وأصبح الطوفان روزنامة في التاريخ ومحطة مفصلية ومن ثورة نوح ولدت ثورة إبراهيم على الأصنام والتي كانت تحدي بشري منطقي وعقلي للدين الزائف ومنها إنطلقت الدعوة اليهودية الذي بشر بها النبي موسى.
إستطاع دين التوحيد أت يستلم الحكم من خلال النبي يوسف فطبق لفترة من الزمن الشريعة والمساواة.
ثم طورت الدعوة عبر النبي موسى.
الأنبياء كانوا يطورون من تفاصيل الدين حسب مرور الزمن لأن طبيعة الأمور تتغير ولكن الدعوة الخالصة إلى إله واحد بقيت أصلا وثابتا لا يتغير.
إلى أن جاء النبي عيسى وأزال السلبيات التي لحقت بدعوة موسى وظل يدعو لدين التوحيد الذي ختم مع النبي الأكرم محمد(ص).
هذا الإستعراض التاريخي هو لتسليط الضوء على أن دين التوحيد كان يواجه من قبل تحالف السلطة والمال والدين الزائف.
فالسلطة كانت تعتمد على المال لتجويع الناس وجعلهم عبيد لها والدين الزائف حول مفهوم الدين من دين لخدمة الإنسان إلى إنسان بخدمة الدين فسخر الناس لدفع الأضحيات والقرابين والأموال لرجال المعابد ومن جهة أخرى كان يعطي الشرعية الدينية للسلطة السياسية القائمة لتبرير ظلمها وجورها بعيدا عن أحكام الله.
قاوم دين التوحيد هذا التحالف الثلاثي، وقدم في هذه المواجهة العديد من الشهداء على درب الخلاص.
وكان يرى أن نقطة قوة الظلم السياسي هو إعتماده على الدين الزائف فكان لا بد من فضحه.
فدعا إلى إله واحد وبالتالي أصبح هناك واحد أحد سلطانه وملكوته أقوى من سلطان وملكوت الأرض، ودعا الناس إلى التحرر وأمن لهم المساواة والعدل على أساس التقوى لا الدم والعرق وبالتالي دعا إلى القضاء على التبعية والطبقية وجابه الإحتكار والجشع.
وبالتأكيد لم يكن ليرق للتحالف الثلاثي وخصوصا الحكم السياسي هكذا دين فواجهه ولكن حينما رأى أنه لن يستطيع التغلب عليه، قام التحالف الثلاثي بتبني دين التوحيد.
قاموا بإستبدال دين بدين.
والخطة كانت إضعاف دين التوحيد من الداخل وقلب مفهومه ومعناه لإنسان بخدمة الدين وتبرير الظلم.
وحققوا نجاحات في هذا المجال.
فتحول دين التوحيد عبر التاريخ إلى طقوس فارغة وأداة لتبرير القتل والهمجية.
وما الإنقسامات التي كانت تحصل بعد وفاة كل نبي بين الأتباع إلا أدلة تاريخية عن دخول عناصر الحلف الثلاثي للتخريب وزرع الفتن.
اليوم دين التوحيد أصيب بداء الطقسنة وأصبح الدين أداة للوصول إلى الحكم وتبرير الظلم وما أصاب أتباع هذا الدين ما هو إلا لإبتعادهم عن جوهر فهم الدين الذي هو التوحيد الصرف والخالص لإله واحد فقط والفهم العقلي لمرتكزات وغايات الدين.
وإذا ما لم نفهم ونعود لجوهر ديننا فإننا لسنا بتوحيديين بل نحن أتباع الحلف الثلاثي علمنا ذلك أو لم نعلم.