لم تكن الانتخابات البلدية في طرابلس إلّا اختباراً أوّلياً لما يمكن تسميته بانتفاضة مدنية، ذات أبعاد متعدّدة وجذور وأسباب تتخطى في نتائجها العاصمة الثانية للبنان التي قالت كلمتها في وجه أكبر تحالف انتخابي وسياسي. صحيح أنّ معركة طرابلس توفر لها حصان معركة هو اللواء أشرف ريفي، وتوفّرت لها ظروف اندلاع الانتفاضة، لكنّ غيرها من المناطق والبلدات والمدن لم يكن أقل إيذاناً بمؤشرات وجود تحوّل كبير في المزاج العام، سينعكس حكماً في الانتخابات النيابية المقبلة، بدرجة أو بأخرى تبعاً للمناطق والتحالفات.

في الجنوب لم يكن الوضع مؤاتياً لـ«حزب الله» وحركة «أمل»، فاللوائح المعوّمة منهما وجدت نفسها للمرة الاولى بمواجهة لوائح جدّية استطاع بعضها الاختراق، ونال معظمها نسباً محترمة من الاصوات، ومَن يتتبع ما حصل في الجنوب يدرك أنه على الرغم من كونه المنطقة الأكثر ضبطاً، خرج كثير من البلدات عن الانتظام الذي فرضه التحالف الشيعي وعبّر عن رأي اعتراضي يؤسس لمرحلة جدّية من اتساع الرفض لمنطق التحالفات الفوقية، سيترجم في المستقبل نمواً لقوى جديدة لها حظوظ كبيرة في التنافس.

أما في بيروت، فقد كانت المعركة بداية لكسر احتكار القوى السياسية، حيث تمكّنت مجموعة من رموز المجتمع المدني من تشكليل لائحة منافسة، حصدت الكثير من الاصوات والنسب، وهؤلاء يستعدون لكي يكونوا نواة لائحة نيابية في بيروت في دوائرها الثلاث.

مفارقة طرابلس أعطت الكثير من العبر، لما يمكن أن يكون عليه الوضع في المستقبل القريب. فقد توفّرت في المدينة رغبة التغيير التي اتكأت على موجة رفض عارمة للتحالفات الفوقية، وعلى موجة تعود جذورها الى 14 آذار 2005 وهي عبّرت عن نفسها من خلال دعم لائحة اللواء ريفي، الذي لم يبارح يوماً مشروع 14 آذار.

في الخلاصة يمكن القول إنّ فرعاً جديداً من 14 آذار الأصلية قد ولد، وهو الذي يظهر نفسه تحت عنوان المجتمع المدني، وهذا ما سينتج قيادات جديدة تحمل مشروع البعدين السيادي والمدني، مدعوماً بقيادات بقيت على التزامها بمشروع 14 آذار.

هذه الولادة الجديدة عبّر عنها الرئيس نبيه بري الذي قال في أعقاب انتخابات طرابلس، أنّ مَن لا يرى هذا التغيير أعمى. وفي هذا الكلام استشراف لمرحلة جديدة مقبلة، تحمل في طياتها الكثير من معالم التغيير.

ويبقى السؤال، في ظلّ هذا التغيير الذي يضرب 14 آذار التقليدية، التي تتخبّط في صراع عميق بين قياداتها، وفي ظلّ محاولات قوى جديدة اختراق الطوق الفولاذي للثنائي الشيعي، كما القوى التي تحاول عدم تكريس قوة الثنائي المسيحي، هل سيُتاح لهذه القوى أن تبلور مشروع تغيير قادراً على اختراق الطبقة السياسية التي تجدّد لنفسها من خلال قانون الانتخاب، وهل يصلح النموذج الذي قدّمه اللواء ريفي كي يكون أحد دعامات التغيير، خصوصاً إذا ما استطاع هذا النموذج أن يجذب اليه الكثير من رموز التغيير الذي بات على ما يبدو عابراً للطوائف والمناطق والاصطفافات؟

الجواب على هذا السؤال يبقى مرهوناً بعوامل عدة أبرزها قدرة هذه القوى على التوافق على أجندة وبرنامج يقدّم تصوّرَ القواسم المشتركة، وهي كثيرة، ولكن تحتاج الى أوسع التقاء مدني وسياسي، عابر للطوائف وقادر على خوض معارك سياسية في كلّ المناطق، وإذا ما كانت البيئة السنّية قد بدأت بتقديم هذا النموذج في اعتراض على أداء «تيار المستقبل» والتحالفات الهجيتة، فإنّ البيئتين المسيحية والشيعية ستكونان هما أيضاً تحت الاختبار في الانتخابات النيابية المقبلة.