قد يتساءل أيّ مراقب لماذا عقد مؤتمر المسيحيين العرب مؤتمره الصحافي في هذا التوقيت وفي العاصمة الفرنسية باريس، فيما كانت تشتعل العواصم العربية بالتظاهرات السلمية التي تخطّت بمطالبها جميع التوقعات المتفائلة، إذ شكلت موجة ثانية من الثورات السلمية التي لم تنجح الانظمة في قمعها هذه المرة، ولا في جرّها الى المنحى العسكري أو الطائفي أو شرذمتها؟
 

صاحب الدعوة والتحضير هو المنسّق العام لقوى 14 آذار سابقاً الدكتور فارس سعيد، الذي حضّر طوال أشهر لهذا المؤتمر، تنسيقاً واتصالات مع شخصيات مسيحية لبنانية وعربية من سوريا والعراق ومصر والاردن، وعقد المؤتمر في باريس لعدم قدرة عدد من المشاركين، خصوصاً السوريين منهم، على القدوم الى بيروت، وشارك فيه ممثل عن الفاتيكان، وشخصيات إسلامية مرموقة وقعت الاعلان النهائي الذي شكّل استكمالاً لقمة التسامح التي عقدت في أبو ظبي، بين البابا وشيخ الازهر.

هل كان التوقيت ظالماً في حق المؤتمر؟ يقول الدكتور فارس سعيد انّ العكس هو الصحيح. ففي وقت يمر الشعب اللبناني في مرحلة انتقال تاريخي بين حقبة انتهت، وأخرى بدأت مبشّرة بعصر المواطنة والدولة المدنية وهَدم جدران الحرب الاهلية الى الأبد، تجتمع شخصيات مسيحية واسلامية على قواسم مشتركة كبيرة، وتمهد لعبور دولنا الوطنية التي رزحت تحت نير الاستبداد لعقود وعقود، من أسر الولاءات الطائفية والزعامات والأحزاب المحنّطة، الى أفق جديد يعلن بدء رحلة الدولة المدنية والوطنية، والى عروبة حضارية تجمع ولا تفرّق، تحتضن أحلام الشباب العربي بالحرية والمواطنة والديموقراطية، وتنظّم علاقة المجموعات المختلفة، سواء منها الاغلبية السنية او الأقليات الخائفة، التي آن لها ان تخرج من وهم تحالف الأقليات الذي تستثمره ايران، وتغري به بعض الأقليات بمستقبل أفضل وبغلبة هي الوجه الآخر لانهزام أكيد، ناتج من هذا الخيار الانتحاري الذي يستجدي الحماية ووهم القوة، من تدخّل خارجي، ومن تحالف أقليات أثبتت التجارب التاريخية انه مجرد لعبة ميسر خاسرة.

كان الحضور في مؤتمر باريس فاعلاً ومؤثراً، فالحضور الرسمي الفرنسي والفاتيكاني كان شاهداً على لغة وخطاب ربما لا يحظى برواج لدى غالبية المسيحين، لكنه الخطاب الذي يحوّل القلق الى رؤية، والمأزق الى طريق باتجاه الخروج من نفق أوهام تاريخية، لم يعد لها مكان بعد الثورات السلمية التي تشهدها البلدان العربية، التي أعطت المسيحيين مكاناً ريادياً لم يحسنوا استثماره.

 

أما الحضور السعودي فكان أيضاً مَعبراً، بدأ في المملكة حيث استقبل فيه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، واستُكمل بإنشاء مؤسسات للحوار بين الاديان، اضطلعت بدور مهم في محاربة الفكر المتطرف والدعوة الى ترسيخ مبدأ العيش معاً، والى إرساء قاعدة ثابتة للتعامل بين الاكثرية والاقليات وفق قاعدة المواطنة، وليس الخوف او الاستتباع، كل ذلك على أساس احترام فكرة الدولة الوطنية التي تحتضن كل مكوّناتها وتؤمن لهم الحقوق المتساوية، وقد كانت لافتة مشاركة الدكتور فيصل بن معمر الامين العام لمركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين اتباع الاديان والثقافات (كايسيد)، بما يؤشّر الى وجود جهد منسق، لإرساء تعاون لنشر هذه الاهداف على مستوى المنطقة.

يعتبر سعيد أنّ ما حققه المؤتمر شَكّل نقلة نوعية باتجاه توضيح الاهداف الآنية والبعيدة، وستستكمل هذه الاهداف في المؤتمر الثاني الذي يفترض عقده خلال سنة، وأبرز خلاصة برأي سعيد تتعلّق بتقديم فكرة الدولة المدنية بتفاهم مسيحي إسلامي، واختصاراً لها بفكرة مركزية وردت في توصيات المؤتمر: فصل الدين عن السياسة.

هذه مسلّمة رائدة يخرج بها المؤتمر، بحسب سعيد، إذ يمكن بعد اليوم الكلام على هذه الدولة التي تنظّم علاقة المجموعات وليس فقط الافراد، انطلاقاً من فصل الدين عن السياسة، والتفاهم على دساتير مدنية، أمّا لِمن حاولوا التمريك على المؤتمر والتأثير السلبي على ما صدر عنه، فيتوجّه إليهم بالقول: هاتوا ما عندكم، وليحكم الناس على خياراتنا وخياراتكم، ونحن نقبل الحكم.