بعد تقرير بان كي مون الذي يشجِّع على تجنيس النازحين في البلدان المضيفة، جرى استنفار في بعض الأوساط اللبنانية. ونُقِل عن مرجع لبناني رفيع تحذيره: «نعم. ينطوي التقرير على مخاطر كبيرة، مهما حاول البعض التقليل من حجمها. ولكن، فلنعترف بأنّ سبل المواجهة شبه مفقودة»! خلال الأسبوع الفائت، حاولت هيئات مسيحية غير سياسية إجراءَ مسحٍ سياسي داخلي لاستكشاف حقيقة المواقف في ملف النازحين وإمكان التوصل إلى قواسم لبنانية مشتركة حوله. وستواصل هذه الهيئات جولاتها على قوى سياسية لهذه الغاية في الأيام المقبلة.

الخلاصة ليست مشجّعة. فعلى رغم أنّ هذه الهيئات لمست تجاوباً علنياً واضحاً لدى المرجعيات والمسؤولين الرسميين حول ضرورة مواجهة المشكلة، لكنها في المقابل عادت باستنتاجات مثيرة للقلق حول الإمكانات الواقعية للمعالجة، بعيداً عن الشعارات والعناوين الفضفاضة.

إحدى المرجعيات السياسية قالت: المنطقة كلّها تتغيّر. أنظروا إلى سوريا. ما يجري اليوم يؤشّر إلى أنها لن تعود كما كانت. وربما يجري اليوم ترتيب مناطق النفوذ هناك. والشرق الأوسط مقبل على أنواع من التقسيم أو ربما الفدراليات أو الكونفدراليات.

وهكذا، نحن أمام مأزق كبير، إذ يتدفّق علينا مليون ونصف المليون سوري، يُضاف إليهم نصف مليون فلسطيني. فكيف يمكن أن يعود هؤلاء إلى مناطقهم، ومتى؟

وفد الهيئات المسيحية أبدى خشية من بلوغ وضعٍ يصبح فيه متعذراً تماماً إخراج السوريين من لبنان، وإلى مدى زمني غير محدّد، ما يهدّد كيان لبنان بالانفجار. وقال إنّ المأزق يكمن في أنّ لبنان واقعٌ بين فكّي كماشة:

فالأوروبيون يريدون من لبنان أن يشكل حاجزاً واقياً يمنع تدفق النازحين إلى بلدانهم. وهم يَعرضون مقابل ذلك بضع مئات الملايين من الدولارات تبدو أشبه برشوة لبنان لإغرائه ودفعه إلى التجاوب.

وفي المقابل، من مصلحة نظام الأسد أيضاً أن يبقى هؤلاء خارج سوريا في هذه الفترة على الأقل. فليس سيّئاً للنظام خروج نحو خمسة ملايين سوري يتوزعون على دول الجوار، ويُفترض أنّ غالبية هؤلاء النازحين ليست موالية له!

إذاً، يضيف الوفد، إنّ لبنان يدفع ثمن تقاطع المصالح بين النظام القائم في دمشق والأوروبيين على بقاء النازحين في البلدان المجاورة لسوريا. وفيما لبنان مرتبك ويتهدَّد كيانه ويعاني الانعكاسات الخطرة لعملية النزوح، هناك دول أخرى تدرك تماماً أصولَ استغلال اللاجئين وملفّهم، ولا سيما تركيا.

فالأتراك يهدّدون أوروبا بإعادة «تفليت» اللاجئين عبر حدودها البرّية والبحرية إذا تراجع الأوروبيون عن وعودهم بدفع المبالغ المطلوبة منهم، وتسهيل إدماج أنقرة في المجموعة الأوروبية، بدءاً بفتح الحدود الأوروبية أمام المواطنين الأتراك، من دون تأشيرات.

وفيما تستغلّ تركيا ملف اللجوء لمصلحتها، تحت طائلة إطلاق موجات جديدة من اللاجئين برّاً وبحراً إلى أوروبا، فإنّ لبنان الضعيف لا يقوم بتهديد الأوروبيين لسببين: الأول هو أنّ هناك فئةً في لبنان لا ترغب بإحراق علاقتها مع أوروبا، والثاني هو أنّ هناك فئة لا يزعجها أساساً ملف النازحين... إلى هذه الدرجة!

وينقل الوفد عن أحد المسؤولين قوله: لنكن واقعيين. لن يقبل نظام الأسد إقامة مناطق آمنة للنازحين داخل الأراضي السورية، على مقربة من الحدود مع لبنان. وأما أوروبا فستعاقب لبنان إذا عمد إلى إطلاق موجات من النازحين بحراً في اتجاهها. والحلّ الأفضل- يضيف المسؤول- هو أن نستفيد من الأموال التي يعرضونها علينا ونتعايش مع ملف النازحين إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً!

هذا الكلام المثير للإحباط أو للغضب تضعه الهيئات المسيحية في إطار الاستسلام- المقصود ربما- لملف النازحين. فكأنّ هناك مَن يريد استثمار الملف في الصراع الداخلي، ولو على حساب استمرار الكيان اللبناني المهدّد بالانفجار تحت ضغط الملف.

ولذلك، يطرح بعض الأوساط أن يقوم لبنان بالتحرّك لمواجهة تقاطع المصالح الأوروبية- الدمشقيّة بخطوتين عمليّتين:

1 - مواجهة الأوروبيين بالطريقة التي يهدّد فيها الأتراك بالردّ عليهم، أي بإطلاق موجات النازحين في اتجاه بلدانهم لكي يشعروا بمدى خطورة الملف ويتحمّلوا مسؤولياتهم.

2 - مكاشفة نظام الأسد مباشرة، بإقامة حوار معه حول ملف النازحين. فإذا لم تكن هناك نتيجة من هذا الحوار، فليس هناك أيضاً ما يمكن خسارته. وهذا النظام يتحالف معه نصف لبنان، فيما النصف الآخر يسكت عن هذا التحالف واقعياً.

وفي الأشهر الأخيرة، تبنّى فريق 14 آذار مرشحين لرئاسة الجمهورية يتحالفون عضوياً مع الأسد. وفي ملفات إطلاق الأسرى و»محاربة الإرهاب» يتعاطى لبنان الرسمي مع النظام، وهناك قوى دولية تتوسّط لبنان لفتح خطوط مع نظام الأسد. فماذا يعني أن يمتنع لبنان عن فتح حوار اضطراري مع الأسد حول مسألة مصيرية كالنازحين؟

وتقول الأوساط إنّ طرح الحوار مع الأسد سيثير بالتأكيد اعتراضاتٍ واسعة لدى الفريق المعارض للأسد في لبنان. ولكن، بناءً على الخطوط المفتوحة، المباشرة وغير المباشرة معه، هل تبقى محرّمات سياسية عندما يكون الكيان كله قد أصبح على وشك الانهيار؟

فما معنى أن يبقى لبنان الرسمي رافضاً الاتصال مع نظام الأسد فيما القوى العربية والدولية بمجملها، بما فيها الداعمة للمعارضة السورية، تمدّ خطوط الاتصال العلنية والسرّية معه والتفاوض على المصالح؟

وتنقل الأوساط عن إحدى المرجعيات قولها، عندما تمّت مفاتحته بهذا الطرح: لا مانع لديّ في اعتماد خيار من هذا النوع، ولكنني لا استطيع المبادرة إلى إطلاقه والدعوة إليه. فالردود السلبية ستكون عنيفة وستؤدّي إلى توتر سياسي نحن في غنى عنه. ولكن، إذا قام أيّ طرف بإطلاق هذا الطرح، فنحن على استعداد لإعلان التأييد والدعم.

في الكواليس السياسية يجري التداول بكلام خطر يتعلق بملف النازحين:

1 - هناك قوى لبنانية تبدو ميّالة إلى التعاطي مع الملف باعتباره ملفاً تقنياً، لا كيانياً، وتقترح معالجته بالحصول على بضعة ملايين من الدولارات يتمّ توزيعها بين النازحين والحكومة اللبنانية.

ولذلك، تميل هذه القوى إلى التقليل من مخاطر الملف على الكيان اللبناني وتكتفي بالتركيز على موضوع التمويل. وهذه القوى تحرص على التذكير دائماً بأنّ اللاجئين سيعودون إلى سوريا عاجلاً أو آجلاً، فلا بأس ببقائهم في لبنان مهما طال الزمن.

وهنا لا يمكن استبعاد فرضيات المصلحة الشخصية لدى العديد من المعنيين بالملف. فلا محاسبة ولا شفافية في عملية صرف هذه الأموال. وفي اعتقاد البعض أنّ هناك مَن يرغب في استثمار «مال النازحين» ما دامت الفرصة سانحة. فهذا ظرف تاريخي لبناء الثروات الخاصة. و»مش كلّ يوم رح يكون عِنّا نازحين»!

2 - هناك فئة أخرى وافقت ضمناً على نشوء أزمة النازحين بدوافع مختلفة، ومنها تحويل الملف ذريعة لدفع لبنان الرسمي إلى فتح حوار مع نظام الأسد.

والأرجح أنّ لبنان وصل اليوم إلى المفترق الحاسم بين خيارين:

- ترك الملف يتفاقم، على علّاته، مع ما يمكن أن يقود إليه، أي انهيار الكيان اللبناني. وهذا الخيار هو الأخطر لأنه يتعامى عن المشكلة وفق الطريقة اللبنانية التي تقضي بتأجيل الاستحقاقات من دون أيّ أفق للمعالجة.

- أن يتحرك براغماتياً، أي باستخدام كلّ الأسلحة في مواجهة تقاطع المصالح الإقليمية- الدولية لجعله كبش محرقة في ملف النازحين. والأصعب لتحقيق هذا الهدف هو أنّ اللبنانيين أنفسهم ليسوا متفقين على مخاطر النزوح وعلى أساليب المواجهة وأثمانها.

ولذلك، ليس في الأفق ما يؤشّر إلى تسوية لملف النازحين تحت سقف المصالح الوطنية اللبنانية، بل ارتباك وتأجيل وخبثٌ، من منطلقات سياسية أو طائفية- مذهبية، أو مصلحية شخصية. والضالعون في هذه العملية كثيرون، وبعضهم يتولّى إدارة البلد... بمواطنيه الذين باتوا نازحين مع وقف التنفيذ، ونازحيه الذين باتوا مواطنين مع وقف التنفيذ!