وضع التشيّع في السّنوات الأخيرة تحت المجهر، وقد نتج من ذلك حركة نقدٍ مطردة كمّاً ونوعاً لأفكاره في أدقّ تفاصيلها.

في كلّ الأحوال، فالنقد في حدّ ذاته أمر في غاية الأهميّة، وهو يعكس تطوّراً في البنية الثقافيّة للمجتمع الإسلاميّ، وخصوصاً عندما يتحوّل إلى أرضيّة علميّة لطرح الأفكار ومناقشتها بروحٍ موضوعيّة، أساسها الدليل لا العصبيّة. ولعلّ المرء يتفاءل خيراً عندما تزال الستائر الموهومة عن أفكار كلّ الجماعات المذهبيّة، لتصبح ملك الأمّة كلّها، ويكون النقد جزءاً من حقّها الطبيعي في التعبير عن حرّيتها الفكريّة.

لكنّ المشكلة عندما يختلط البعد الثقافيّ للنقد بأبعاد أخرى، أوّلها وأهمّها البعد السياسي؛ لأنّ النتيجة عندئذٍ ستكون تحويل أيّ جدلٍ فكريّ ثقافيّ إلى نوعٍ من الصّراع لتسجيل النّقاط من هذا الفريق على ذاك، وبالعكس. وأوّل انعكاسٍ لذلك سيكون على عامّة الناس، الّذين قد تنزع الأفكار والانتقادات لديهم من سياقها الفكري، لتصبح جزءاً من عمليّة تكفيرٍ مستجدّة للطّرف الآخر.

والأنكى من ذلك، أنّ طريقة الإثارة، عن قصدٍ أو غير قصدٍ، على عكس أيّ فكرةٍ تطرح كنقدٍ من هنا وهناك، قد تحوّل التشيّع ذاته إلى تهمةٍ، عن طريق استدعاء كلّ صراعات التاريخ بين الفرق الكلاميّة لدى المسلمين، فيتمّ بذلك قطع المسلمين عن واقع إخوةٍ لهم في الدين، بكلّ ما استجدّ فيه من تغيّرات وتطوّرات.

نحن لا نريد هنا أن ننكر أنّ ثمّة مشكلة تاريخيّة في الاعتراف المتبادل، نظراً إلى تراكمات الجدل الكلامي الذي ربّما يخرج من الدين على زيادة حرفٍ أو نقصان حرفٍ من تعبير هذه الجماعة أو تلك عن أفكارها العقدية، ولا سيّما مع استغلال ذلك من السلطة السياسيّة ـ تاريخيّاً ـ والتي كانت، ولا تزال، تهتمّ باستثمار أيّ اختلافٍ في تفتيت المجتمع ليسهل لها قياده... لكنّنا نريد أن نطلق هنا الصوت أمام المنهج والطريقة التي تتمّ بها مقاربة مواضيع باتت بالغة الدقة والحساسيّة في الواقع المأزوم مذهبيّاً إلى أبعد حدود، والمستهدف خارجيّاً إلى أقصى مدى.

ونحن إذ نطرح الموضوع من زاوية ما صدر تجاه التشيّع، فإنّنا نرمي ـ من خلال نقد المنهج ـ إلى تعميم الفكرة حتّى لِما قد يصدر تجاه التسنّن، بحسب التصنيف المذهبي للمسلمين، مما نرجو من الله أن يخلّصنا منه، عاجلاً أو آجلاً.

وأيّاً يكن الأمر، فإنَّ الإعلام يطالعنا بين وقتٍ وآخر، بمساهماتٍ من علماء ومفكّرين وكتّاب، تتعرّض بالنقد لبعض أفكار المسلمين الشيعة، وإن كانت بعض التعبيرات التي ينقلها الإعلام، تشطح إلى أبعد من نقد الفكرة، ممّا سنتناوله فيما يأتي من نقاط.

وما يستوقف القارئ المنصف، هو الطابع المنظّم للنقد، وهو ما بدأه مجمع البحوث الإسلاميّة في مصر، من تنظيمٍ لسلسلة من المحاضرات بعنوان: "مواجهة التيّارات الفكريّة الوافدة إلى المجتمع"، في قاعة الإمام محمّد عبده، في جامعة الأزهر الشّريف، نتوقّف فيها عند مساهمةٍ ممّن يملك الأريحيّة الإسلاميّة المنفتحة والجامعة، وهو العلاّمة الفذّ الشيخ علي جمعة، مفتي الديار المصريّة، للتأمّل والمناقشة في المنهج، لا من زاوية مناقشة الأفكار؛ لأنّني أعتقد أنّ المنهج هو الأساس؛ بل هو المسؤول عن تأزيم 1400 سنة من الجدل المذهبي الذي يستدعى بكلّه وكلاكله اليوم، مؤكّداً أنّ اختلاف الأفكار وحتّى التقويمات مهما بلغت حدّةً  لا ضير منها بعد تأكيد قضيّة المنهج.

أوّلاً: بالنّسبة إلى القول بتحريف القرآن

أتى العلامة الشيخ علي جمعة على ذكر المحدّث النوري، في تأليفه لكتاب "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب"، الذي يثبت فيه بالروايات تحريف القرآن الكريم، وسأثير هنا عدّة أسئلة:

1)   المحدّث النوري ينتمي إلى المدرسة الأخباريّة، وهو يصحّح كلّ روايةٍ ترد في الكتب الأربعة: "الكافي" للكليني، و"من لا يحضره الفقيه" للشيخ الصدوق، و"الاستبصار" و"التهذيب" للشيخ الطوسي، ومع ذلك شذّ هو في رأيه ذاك؛ فهل يعقل تحميل الشيعة قول شواذّ من الإجماع الشيعي القائل بسلامة النصّ القرآني حتّى الحرف؟! وأنقل هنا نصّاً للشريف المرتضى (توفّي سنة 436 هـ)، يقول: "إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالأبدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه؛ لأنّ القرآن معجزة النبوّة، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً ومنقوصاً، مع العناية الصادقة والضبط الشديد!"، ويختم كلامه عن المسائل الطرابلسيّات، أنّ "من خالف من الإماميّة والحشويّة لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قومٍ من أصحاب الحديث، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته". والشيخ الطوسي يقول: "وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه، فمما لا يليق بهذا الكتاب، المقصود منه العلم بمعاني القرآن؛ لأنّ الزيادة منه مجمع على بطلانها والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا"[1].

2)   إنّ الأحاديث الَّتي تَنسب التحريف إلى القرآن، موجود مثلها في المجاميع الحديثيّة السنّية، فهل يلزم المسلمون السنّة بالقول بالتحريف لأنّها وردت في صحاحهم أو كتبهم الحديثيّة؟ ألم يكن وجه من وجوه النسخ، وهو نسخ التلاوة، لحلّ هذه الإشكاليّة التي يقول عنها المرجع الشيعي السيد الخوئي إنّها تفضي ـ برأيه ـ إلى القول بالتحريف، وعليه أنكر نسخ التلاوة؟

3)   المسلمون الشيعة لا صحاح عندهم؛ فالكتب الأربعة الآنفة الذكر، تخضع كلّ رواية منها للنقاش السندي لتصحّح سندياً، فضلاً عن النقاش المضموني وموارد التعارض بين الدلالات وكيفية علاجها، ويمكن مراجعة كتب الفقه من أوّل مصنّفٍ شيعيّ إلى الآن، لترى تعبيراتهم عن الروايات بالضعف والإرسال والحسن والصحّة وما إلى ذلك؛ وجلّها من الكتب الأربعة.

4)   وما دام الكلام ساقنا إلى كتب الحديث، ففي المنهج، لا تمثّل الروايات بالنسبة إلى العقائد والفقه، سوى معطيات ذات احتمال علمي، وعليه، فلا يمكن تحميل أيّ شخص مسؤوليّة وجود معطيات في كتبه، وإنّما يسأل عن النظريّات التي يراها من خلال تجميع المعطيات بعضها إلى البعض الآخر، فضلاً عن أنّ الفقيه أو عالم العقيدة، قد يلجأ أحياناً إلى رفض روايات بتمامها؛ لأنّه صحّ عنده ما يخالفها مما هو أقوى سنداً أو دلالةً. أليس في كتب السنّة روايات لم يلتزم فقهاء السنّة بالعمل بها؟!

5)   نعم، على أساس ذلك، ندعو إلى اعتماد مبدأ أن لا صحاح عندنا جميعاً، حتّى ننتهي من مثل هذه المشاكل، سنّة وشيعة، ويتمّ ـ على الأقلّ ـ تأليف كتبٍ تصنّف الأحاديث بشكل واضح، ولو ضمن المباني الاجتهاديّة في علم الدراية والحديث.

6)   يبقى أنّ العلامة جمعة يقول إنّ الشيعة المعاصرين هاجموا المحدّث النوري وحاولوا إخفاء الكتاب. ونقول: من الطبيعي ـ أوّلاً ـ أن يهاجمه المعاصرون، لأنّه ينتمي إلى حقبة زمنيّة متأخّرة، والواقع أنّ الكتاب غير متداول، لا أنّهم حاولوا إخفاءه.

ثانياً: بالنّسبة إلى صحّة العقيدة التوحيدية

أثار الشيخ علي جمعة المسألة الكلاميّة المعنونة بـ (البداء)، حيث قال: "يعتقد الشيعة بعقيدة "البداء"، والتي تعني أنَّ الله سبحانه وتعالى قد قضى شيئاً ثم غير رأيه وتراجع عن قضائه، وهو ما نرفضه نحن أهل السنة؛ لأن أهل السنة تعتقد أنَّ الله كشف الغيب انكشافاً تامّاً وعلمه علم تامّ، وأنّه سبحانه وتعالى عظمته لا تدركها العقول".

لن أطيل النقاش هنا لأثبت أنّ المراد بالبداء هو الإبداء في عقيدة الشيعة التي تتوافق مع عقيدة أهل السنّة، كما ذكر، ولكنّ العنوان موهم؛ فهل يصحّ الاكتفاء بالعنوان الذي يشار فيه أحياناً إلى عنوان الإشكاليّة، أو بملاحظة أثر المسألة من جهة الإنسان لا من جهة الله... سأكتفي هنا بإيراد ما روي في كتاب "الكافي" حول المسألة: في جوابٍ للإمام محمّد الباقر(ع): "العلم علمان: فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه، وعلم وملائكته ورسله، فما علّمه ملائكته ورسله فإنَّه سيكون، لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء، ويؤخّر منه ما يشاء، ويثبت ما يشاء"[2]. وفي رواية أخرى، يسأل فيها الإمام جعفر الصادق(ع): هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال الإمام الصادق(ع): "لا، من قال هذا فأخزاه الله"، فيقول السائل: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، أليس في علم الله؟ فيجيب الإمام جعفر(ع): "بلى، قبل أن يخلق الخلق"[3]. فهل يصحّ التعمية على عامّة الناس فينسب إلى الشيعة القول بما يوجب الخزي بنصّ إمامهم الذي أخذوا عنه علم رسول الله(ص)؟! هذا كلّه فضلاً عن كلمات علمائهم التي تتّفق على أنّ المراد بالبداء الإبداء من جهة الله تعالى، والبداء من جهة الناس؛ فلتراجع كلماتهم في تصانيفهم في علم الكلام من أقدمهم إلى أحدثهم.

ثالثاً: قضيّة عدالة الصَّحابة وسبّهم أو تكفيرهم

ليس الجدل حول عدالة صحابة رسول الله(ص) بالشيء الجديد، ومن المهمّ اعتماد اللغة العلمية الصحيحة في مقاربة الأمور، لا أن تكون العصبيّة المذهبيّة التي لا تدقق في النقل والنسبة والتهمة لأيّ مسلمٍ، فضلاً عن صحابة رسول الله، الذين كان لهم قصب السبق إلى الإيمان، وتحمّل الأذى والجهاد في سبيل الله. وأمّا الشطح في ذلك، فهو ما لا نقبله، ولكنّه جزء من الواقع الذي علينا أن نفهمه، وخصوصاً أنّ تاريخنا مأزوم مذهبيّاً، وهو أنتج فكراً تأثّر به العامّة من الناس، وربّما ضغط العامّة على بعض الخاصّة الذين باتوا يخشون من سخط العامّة في تبيان الحقّ.

ومن ذلك التراث ما أشار إليه فضيلة الشيخ علي جمعة، من كتاب "بحار الأنوار" للعلامة المجلسي، وأنّ خمسة أجزاء منه تذمّ الصحابة.

وأقول ـ منهجيّاً ـ إذا كان الشّيعة يناقشون في أسانيد ما ورد في الكتب الأربعة، وهي المؤلّفة في عصرٍ قريبٍ من عصر أئمّة أهل البيت(ع)، فما بالك بكتاب "بحار الأنوار"، الَّذي توفّي صاحبه في سنة 1111 هجريّة؟! وخصوصاً أنّ كتابه عبارة عن كتاب جامع لما في الكتب، الَّتي منها مشهور ومنها كتب مهجورة، وبعضها كتب غلاةٍ كالبرسي مثلاً، وهو كما في البحار المائيّة، فيه الغثّ والسمين، والصدف والحجارة والفضلات؛ فهل يعقل نسبة ما فيه إلى الشيعة؟!

ثمّ إذا كان المؤلّف نفسه قد ألّف كتاب "مرآة العقول" لتفنيد أسانيد "الكافي" وشرح رواياته، فضعّف الكثير من رواياته، فهل تراه يلتزم بما جمعه هو في كتابه "بحار الأنوار" تصحيحاً لكل ما ورد فيه؟! ولو التزم به، فهل يصحّ نسبته إلى التشيّع وعلمائه السابقين واللاحقين؟!

نعم، نحن لا ننكر أنّ ذهنيّة العصبيّة التي "ينعم" بها العالم الإسلامي، وأتباع المذاهب كافّة، إنّما تستدعي من الكتب ما يغذّي حرارة العصبيّة دون ما يبرّدها، وهكذا يصنع اليوم كثير من أئمّة المساجد والحسينيات والنوادي والفضائيّات... من السنّة والشيعة معاً!

وفي المنهج نقول: إنّ التاريخ محمّل بالكثير من السلبيّات إلى حدّ القرف! وإذا كان الأمر أنّنا سنظلّ نستدعي التاريخ، فأعتقد بأنّنا نظلم الحاضر بكلّ تطوّره وأريحيّته، فأيّ المنهجين تختارون؟

رابعاً: مسألة التقيّة

أعتقد أنّ هذه المسألة غير ذات موضوع اليوم؛ لأنّها مرتبطة بحكم الاستثناء والضرورة نتيجة ضغط الواقع التاريخي، وأعتقد أنّها بذلك تمثّل مبدأ قرآنيّاً وإسلاميّاً عامّاً... أمّا اليوم، فـ "خرابيط" كلّ المذاهب هي online على كلّ مواقع الإنترنت، ويمكن لأيّ متصفّحٍ أن يتعرّف إلى أدنى تفاصيل عقائد المسلمين الشيعة ـ حتّى بما فيه مساس بالآخر ـ فهي بمتناول الجميع، وهذا أهمّ دليلٍ على نفي التقيّة بهذا المعنى، وما يناقش فيه الشيخ العزيز أفضل برهانٍ على ذلك.

أمّا أن تبقى تلك شمّاعة يعلّق عليها حالة إفقاد الناس الثقة بكل ما يسمعونه من الشيعة، فأعتقد أنّ هذا يمثّل مجانبةً للحقيقة؛ لأنّ هناك فرقاً بين أن تتحدّث عن تقيّة تأخذ بفقه الحالات الاستثنائيّة، وأشدّد أنّ فقه الحالات الاستثنائيّة أو الضرورة موجود في فقه الفريقين من المسلمين، وبين أن تتحدّث عن باطنيّة... لا، ليس الشيعة باطنيّين؛ وأعتقد أنّ التداول بهذه المفردة ينبغي أن ينتهي مع ما وصل إليه العصر من الوضوح، والمطلوب أن نكثّف جهودنا للبحث عن الفرق الباطنيّة التي لا تعرف لها قواعد ولا منهجاً، ولا عقيدة ولا شرعة.

خامساً: عصمة أهل البيت(ع)

لا مشكلة في اختلاف السنّة عن الشيعة في ذلك؛ ولكنّ المسألة تابعة للأدلة التي يسوقها المسلمون الشيعة من القرآن، كآية التطهير، ومن السنّة كروايات الثقلين وغيرها، وبذلك تكون المسألة موضوعيّة، ويتمّ مناقشتها من خلال الدليل والحجج؛ فلماذا تصوّر المسألة على أنّ بطلان عقيدة العصمة من المسائل البديهيّة التي تبعث على رمي مجرّد الاعتقاد بها بالغلوّ؟!

مع أنّنا نطرح  ـ في المنهج ـ أنّ التبعيّة لأئمّة أهل البيت(ع) في ما بثّوه من علم الإسلام، لم يتوقّف لدى بعض الشيعة على عصمتهم؛ بل كان بين رواة الأحاديث أناس ينتمون إلى غير الشيعة، كما يلوح من كلامٍ للشهيد الثاني، الذي تدرّس كتبه في الحوزات العلميّة، يقول فيه بعد أن يسرد جملة من الاعتقادات في أئمّة أهل البيت(ع) من جملتها العصمة، وبعد أن يتساءل بأنّه هل يعتبر الإيمان بكلّ ذلك، "أم يكفي اعتقاد إمامتهم ووجوب طاعتهم في الجملة؟"، ثمّ يقول: "ويمكن ترجيح الأوّل"، أي الإيمان بالعصمة وغيرها، "بأن الذي دلّ على ثبوت إمامتهم، دلّ على جميع ما ذكرناه خصوصا العصمة؛ لثبوتها بالعقل والنقل". ويعقّب فيقول: "وليس بعيداً الاكتفاء بالأخير، على ما يظهر من حال رواتهم ومعاصريهم من شيعتهم في أحاديثهم عليهم السلام، فإنّ كثيراً منهم ما كانوا يعتقدون عصمتهم؛ لخفائها عليهم"[4]... وإذا كان هذا حال النقاش العقدي في المسألة، حتّى لدى الشيعة أنفسهم، فلا بدّ من الحذر في طريقة المقاربة النقديّة، حتّى لا نقع في منزلق الدلالات غير المباشرة للنقد، والتي تحرّك النقد على أساس التهمة، لا على أساس الحوار الموضوعي الهادف.

وفي ظنّي أنّ كلام الشهيد الثاني، يؤسّس لاعتبار حديث أهل البيت(ع) قاعدة تقارب علميّ فقهي كلاميّ بين السّنة والشيعة؛ لأنّ أغلب الأحاديث مرويّة عن الإمام جعفر الصادق(ع)، وهو أستاذ أئمّة المذاهب الإسلاميّة السّنّية، وهو ناشر علم أهل البيت(ع) في حقبة خفّت فيها الضغوط السياسيّة، نتيجة ضعف الدولة الأمويّة النازلة، وضعف الدولة العبّاسية الصاعدة.

أخيراً:

نعود ونؤكّد ما أشرنا إليه في البداية، أنّ كلاً من التسنّن والتشيّع، في اعتقاد المنتمين إليهما، أساس لعبادة الله الواحد، وهو ما يؤسّس لانفتاح العلم على أساس ما يثبت أنّه الحقّ؛ فلا نعتقد بعقيدة لمجرّد أنّها عقيدة جماعتنا، هنا وهناك؛ لأنّ هذه عصبيّة، وأنّها عبادة لغير الله تعالى؛ لأنّ العنوان ـ التسنّن أو التشيّع ـ يتحوّل من كونه طريقاً لمعرفة الله وعبادته، إلى كونه غايةً، وهنا يبدأ الشرك.

إنّ علينا جميعاً أن نعمل لتأسيس بيئة علميّة، لا سنّية ولا شيعيّة، ولعلّ المنطق العلمي يرفض مذهبة العلم؛ فلا يستطيع عالم شيعي أن يشكّل قناعته في أيّ فكرةٍ اقتصاراً على دائرة مجاله الشيعي، ولا العالم السنّي كذلك؛ لأنّ فكر الآخر يفرض نفسه، ولو كاحتمالاتٍ، على فكري، شئت أم أبيت. وحالات الاستبعاد المصطنع للاحتمالات فقط لأنّها تنتمي إلى مجال مذهبٍ آخر، هو تحكّم في الأدلّة والمعطيات، وهذا منطق غير علميّ. كيف؟ والقرآن كتابنا جميعاً، وجلّ الأحاديث التي يريها المسلمون مشتركات.

وفي الختام نقول: بات من المعيب أن نتحرّك ـ سنّة وشيعة ـ بالتكفير، في شكلٍ مباشر أو غير مباشر، وخصوصاً عندما يستند التكفير إلى الاجتزاء، أو إلزام الناس بما لا يلتزمون به، لمجرّد أن بعض المنتمين إليه يلتزمون فكراً ما أو عقيدةً ما... كيف؟ والتزام الأفكار يتمّ من خلال أدلّة يطرحها هؤلاء وأولئك، فلتناقش؛ فإذا عرف الإنسان الحقّ وجحده، فعندئذٍ يكفر هو، ويعرف هو أنّه كافر يستر الحقّ...

لا نريد أن نفتح باب الحديث حول معايير التكفير؛ ولكنّ الدماء تسيل أنهاراً، والأجيال الصاعدة تحمل كثيراً من أعباء التاريخ الذي نتحمّل مسؤوليّة تأكيد المنهج الأصوب في التعامل معه، لتبدأ عجلة جديدة من صناعة الفكر... والله من وراء القصد.


[1]  للوقوف على كلمات علماء الطائفة الشيعية في مسألة التحريف، يراجع كتاب (صيانة القرآن من التحريف) للعلامة الأستاذ محمد هادي معرفة، طبع قم، إيران، إصدار مؤسسة النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرسين، وقد نقلنا الكلام من هناك.

[2]  الكليني، الكافي، ج1، ص 147، باب البداء، حديث 6.

[3]  الكليني، المرجع نفسه، حديث 11.

[4]  راجع: الشهيد الثاني، حقائق الإيمان، ص 151.