لعبة الرئاسة عالقة في داخل علبة يحتفظ بها «حزب الله». وفي العلبة يتعارك عون وفرنجية. ويستطيع «الحزب»، لو شاء، أن يفتح باب العلبة ويُخرِج أحدهما وينقله إلى بعبدا. لكنه حتى الآن يفضِّل استمرار العلبة بلا إصلاح... واللعبة بلا تغيير! في يد «حزب الله» «ثلاث لاءات» تمنع عون وفرنجية من الوصول إلى القصر، وتُعطِّل انتخاب رئيس جديد:

- لا مجال لعون لكي يفجِّر علاقته بـ«الحزب» ويعود بها إلى الوراء، ولو كان «الجنرال» 8 آذار «تايواني»، وفق وصف الدكتور سمير جعجع.

- لا مجال لفرنجية لكي يختلف مع «حزب الله» من أجل الرئاسة، وهو العميق جداً في «الخطّ»، أي «8 آذار أصلي»... مثل «الحزب».

- لا مجال ولا رغبة ولا قدرة للرئيس نبيه بري والرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط على عقد جلسة انتخابية إلّا بمباركة وتنسيق كاملين مع «الحزب».

وهكذا، يقع ملف الرئاسة في دائرة مقفلة: لا ينسحب عون لأنه مع معراب بات يترجم إرادة غالبية المسيحيين. ولا ينسحب فرنجية لأنه «الخلف الشرعي» لعون المتعذِّر وصوله. ولا يُنتخَب سواهما لأنّ ذلك يخالف إرادة غالبية المسيحيين! وهذه المعادلة المقفلة، على طريقة «البيضة والدجاجة»، يرتاح إليها «الحزب» لأنها تُبقيه صاحب القرار في الملف الرئاسي.

وصحيح أنّ رئاسة الجمهورية قليلة الأهمية ولم تعد مادة ثمينة للمساومة، لأنّ لبنان بلد صغير، ولأنّ الرئاسة للمسيحيين لا للسنّة أو الشيعة، ولأنها منزوعة الصلاحيات تقريباً منذ إقرار «اتفاق الطائف»، إلّا أنّ هناك مَن هو مستعدّ لدفع ثمن معيَّن للرئاسة، لأنها تعني له شيئاً.

فالسعوديون، مثلاً، يهمُّهم إنجاز الاستحقاق. وقد بذلوا محاولات لترميم الوضع، في مطلع الفراغ. ولذلك، فاوضوا عون وأتاحوا للحريري أن يفعل. وفي اعتقادهم أنّ وجود رئيس مسيحي في بعبدا، أيّاً تكن الظروف، سيساهم في تعديل التوازن الذي اختلَّ لمصلحة «حزب الله» وإيران. لكنّ السعوديين ليسوا مستعدين لدفع أثمان باهظة في هذا السبيل، وليسوا مضطرين إلى ذلك.

وكذلك، الفاتيكان والفرنسيون يريدون الإبقاء على الموقع الوحيد لحضورهم في الشرق الأوسط، لكنهم لا يملكون الثمن لكي يساوموا إيران التي تفضِّل أن تحتفظ بالورقة لمساومة الأميركيين، عندما يحين موعد المساومات والصفقات. ولذلك، لم يكن في جعبة الرئيس فرنسوا هولاند، خلال زيارته، شيء عملي يتعلق بالرئاسة.

والأميركيون يهمُّهم موقع الرئاسة لتثبيت الاستقرار اللبناني. ولكن، إذا كان الاستقرار مؤمَّناً بتولّي الحكومة دستورياً صلاحيات الرئيس بالوكالة، وإذا لم يكن المسيحيون منزعجين كثيراً من الفراغ، فليبقَ «الستاتيكو» الحالي، إلى أن يأتي وقت التسوية.

إذاً، يبدو ملف انتخابات الرئاسة مهمّاً للبعض، لكنّ أحداً لا «يستقتل» لإنجاز خطوات عملية فيه. والأهم هو أنّ المسيحيين، المعنيين أساساً به، ليسوا مستعدين، أو ربما ليسوا قادرين على اتخاذ قرار جريء يتبنّى بالإجماع مرشحاً واحداً يمثّلهم، ما يمنع لعب الآخرين على تناقضاتهم ويفرض انتخاب هذا المرشح فوراً.

ولأنّ عون وفرنجية، المرشّحَين «الحصريين» للرئاسة، متحالفان مع «حزب الله»، ولأنّ فريق 14 آذار اعترف لـ«الحزب» واقعياً بأنه تخلّى عن رئاسة الجمهورية إلى الأبد مقابل احتفاظه برئاسة الحكومة، فإنّ «حزب الله» مطمئن تماماً إلى أنّ مسار الملف الرئاسي لن يخرج أبداً عن السيطرة.

ولا مشكلة لدى «الحزب» في أن يتداول الجميع في الملف الرئاسي، وأن يرسموا السيناريوهات، ما داموا سيعودون إليه ليبرموا الصفقة معه. والمسألة تبقى بالنسبة إليه: متى يحين الموعد لـ«يبيع» ورقة الرئاسة ويقبض ثمنها؟ ومَن سيدفع أكثر؟

على مدى العامين السابقين، لم تكتمل عناصر صفقة. وساد الاعتقاد لدى الكثير من المتابعين بأنّ «الحزب» سيترك الملف الرئاسي معطّلاً، وكذلك سائر الاستحقاقات الدستورية والمؤسسات، إلى أن يهترئ البلد تماماً فيتداعى ويصبح الجميع في حاجة ماسّة لإعادة بنائه.

ووفقاً لهؤلاء، إنّ «الحزب» يراهن على أنّ خصومه سيأتون إليه في النهاية ويرجونه القبول بعقد المؤتمر التأسيسي، لأنّ الوضع لم يعد يُحتمل. وعندئذٍ، «سيوافق» «الحزب» على هذه الخطوة، ويحقق فيها أفضل المكاسب.

هؤلاء يقولون أيضاً إنّ تلك اللحظة لم يَحن أوانها بعد. فهناك تطورات كبيرة يجب أن يشهدها الشرق الأوسط ولبنان تؤدي إلى إنضاج المؤتمر التأسيسي. ولذلك، سيبقى «الستاتيكو» الراهن مسيطراً.

ولا حاجة إلى عقد الآمال الخادعة على تسويات أو مخارج محتملة لأزمة الرئاسة وسائر الأزمات السياسية والدستورية. ولكن، في المقابل، هناك مَن يرى ملامح تحوُّلات بدأت تظهر، وهي قد تدفع إلى عقد صفقة سياسية في لبنان تتضمّن الرئاسة، أو على الأقل «ميني» صفقة تعالج الملف الرئاسي موقتاً، في انتظار الصفقة الكبرى. وهذه التحوّلات هي الآتية:

1 - يتبلور المشهد السوري أكثر فأكثر، سواء في ما يتعلق بانطلاق المفاوضات السياسية في جنيف أو بتوجُّه النظام ومعارضيه و«داعش» والأكراد إلى الحسم العسكري.

ويوحي الأميركيون، بعد تفاهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية الاميركية جون كيري في موسكو، بأنهم يريدون تأسيس التسوية السورية قبل انتخاب الرئيس الأميركي العتيد في الخريف المقبل، بحيث تكون الوقائع السورية الجديدة «خريطة طريق» له، في سوريا وسائر الشرق الأوسط.

ولهذه الأسباب، مرَّر الأسد انتخابات تشريعية أراد من خلالها توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أنه ممثل سوريا الشرعي، وأنّ «سوريا الحقيقية» هي تلك التي يسيطر عليها ويقودها بمؤسسات شرعية، فيما «السوريات» الأخريات تحت سلطة «داعش» أو قوى المعارضة الأخرى هي شيء آخر خارج المؤسسات.

وإذا تبلورت فعلاً ملامح جديدة لسوريا، في الأشهر المقبلة، فقد يوافق «حزب الله» على تسوية موضعية في لبنان تمنحه المكاسب التي يريدها، بحيث يتزامن تركيب التسوية هنا وهناك. وعندئذٍ، قد يتزامن المؤتمر التأسيسي مع تركيب سوريا الجديدة.

2 - في لبنان، قد يحتاج «حزب الله»، إلى تسويات تخفِّف من العواقب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، إذا ارتفعت في وجهه الاتهامات بالمسؤولية عن التعطيل. ولذلك، سيحتاج إلى أوراق جديدة ليرميها على الطاولة. ولن تكون ورقة رئاسة الجمهورية وحدها هي المستخدمة، بل أيضاً ورقة الحكومة وقانون الانتخاب والانتخابات النيابية، إضافة إلى ورقة الأمن. وستكون هذه الأوراق ذات قيمة في عملية المقايضة، إذا جرت مفاوضات سعودية - إيرانية.

3 - بعد الكلام الذي تردَّد أخيراً عن إمكان دخول «حزب الله» مأزق المواجهة مع المحكمة الدولية، بتوجيه اتهام إليه على مستوى القيادة، سيحتاج «الحزب» إلى كثير من الأوراق لتخفيف الضغط عنه ومساومة القوى الإقليمية والدولية.

إذاً، يحتفظ «حزب الله» بورقة الرئاسة كأيّ مستثمر يشتري أسهماً في البورصة، إدراكاً منه أنّ الظروف الآتية سترفع أسعارها، وسيحقق منها الأرباح. وحتى اليوم، نجح «الحزب» في استثمارات من هذا النوع، قبل العام 2005 وبعده. فهل سينجح أيضاً في استثمار ورقة الرئاسة؟

المتابعون يرجّحون ذلك، ويعتقدون أنّ المسألة بالنسبة إلى «الحزب» هي مسألة وقت وإنضاج للظروف لا أكثر. وأمّا «الدلع الماروني» الحليف، فهو من نوع المشهديات التمثيلية التي لا بدّ منها، لكي يمرِّر الجمهور وقته بالحدّ الأدنى من الضجر، انتظاراً لبدء المسرحية!