في الحديث مع رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان تلمّس مباشر لواقع لبنان بعد مغادرته قصر الرئاسة في بعبدا (24 مايو 2014). في حدث المغادرة ما هو لافت من حيث أن سليمان أنهى مهامه على رأس البلاد بعد انتهاء ولايته، ذلك أن رئاسيات ما بعد الطائف لطالما شوّهتها عمليات التمديد التي لم تحترم مهلا ولا استحقاقات. حتى اللبنانيون كانوا مبهورين بالحدث، على الرغم من أن الرئيس أقفل باب القصر وراءه دون انتخاب بديل تاركا البلد في فراغ رئاسي لم يخرج منه حتى الآن.

قصدته إلى مقر المكوّن السياسي الجديد الذي شكّله وحمل اسم “لقاء الجمهورية”. المقر في منطقة الحازمية غير البعيدة عن منطقة بعبدا حيث مارس في القصر الرئاسي دوره كرئيس وصل إلى الحكم في ظروف استثنائية دراماتيكية.

كاد اللبنانيون يدخلون حربا أهلية، قبل أن يتجمع قادتهم في العاصمة القطرية ويخرجون باتفاق الدوحة الشهير. أنتج الاتفاق، من ضمن سلّة تفاهمات، توافقا على انتخاب قائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية (25 مايو 2008).

خَبِرَ سليمان ظروف الوصاية السورية وكيفية المناورة في ظلّها. ارتفعت أسهمه كمرشح لفريق 8 آذار القريب من دمشق وطهران كونه واكب فترة الوجود السوري وشروط التعامل مع حزب الله. تحفّظ الفريق المقابل، ثم تطوّر موقفه موافقة على التسليم به شخصية توافقية على رأس الدولة. لكن الرجل ومنذ اللحظات الأولى مارس دورا وسطيا مخصّبا بمواقف تتّسق مع الدور الحقيقي للرئيس. بدت كلماته الأولى في خطاب القسم صريحة واضحة اقترب فيها من شعارات 14 آذار دون أن يقلق الفريق المضاد. على أن الرئيس، ومن موقع الرئاسة، ومن قلب معايشته للصراع بين الدولة والدولية ومن ثنايا معاناته من تدخلات الخارج سوريّا وإيرانيّا، أظهر مواقف لم تستسغها دمشق وطهران ولم يقبلها التحالف السياسي حول حزب الله، ما عرّضه لانتقادات شرسة من قبل هذا الحلف الذي اتهمه بـ”معاداة المقاومة”.

الرئيس القلق على لبنان من تداعيات البركان السوري وتداعياته على اللبنانيين، نجح في جمع القادة السياسيين للبلاد لوضع وثيقة ثوابت تحدد طبيعة العلاقة مع الدستور والدولة، كما طبيعة التعاطي مع الأزمة السورية، وعدم الانخراط في أتونها من خلال ما أطلق عليه اسم “إعلان بعبدا” (11-06-2012). ورغم الإجماع على هذه الوثيقة، أطاح تدخل حزب الله في سوريا بمفاعيلها وحوّلها إلى حبر على ورق.

 

اتفاق الطائف

 

في مقرّ الحازمية كان الرئيس سليمان منهمكا في التحضير لاجتماع “لقاء الجمهورية” في ذلك اليوم، لكنه كان يجيب على أسئلتي وكأنها جانب من اجتماعه، رغم أن نقاشنا جرى بعيدا عن قاعة الاجتماعات. قاعدة المهمّة السياسية للرئيس يبقى اتفاق الطائف “فهو العقد الاجتماعي بين اللبنانيين بعد الحرب الأهلية وهو أساس الدستور والقوانين والمؤسسات، وهو الذي ينتج الاتفاقات كقانون الانتخاب وعمل الوزارات وإصدار القوانين”. أسأله غامزا من قناة من يعتبر أن “الطائف” سلب الرئيس صلاحياته، ألم يقيّدك هذا الاتفاق في ممارسة السلطة حين كنت رئيسا؟

يجيب بلا تردد “أن تؤخذ الصلاحيات بمنحى طائفي فهذا يعني أننا ابتعدنا عن روح ما هو مقصود في الطائف. فصلاحيات الرئيس موجودة بالدستور، وإذا كان هناك ما يقيّدها فذلك كامن في تفسير النصوص”. يسهبُ سليمان في تناول اللغط في تفسير الدستور، لكن “الطائف هو عقد اجتماعي جيد حافظ على لبنان في أصعب فترة في تاريخه، وحافظ عليه رغم الانهيار السوري”، وما يجب أن يفعله اللبنانيون هو “تحصينه”. أسأله: تقصد تعديله؟

لا يحب الرئيس كلمة تعديل في موسم الكلام عن مؤتمر تأسيسي وغير ذلك ممّا يروم الإطاحة بالطائف. يذهب إلى تفضيل صيغ كـ”تفسير المواد الدستورية، فيما يخصّ تأليف الحكومة ومهل التأليف أو تعريف صلاحيات الوزير مثلا. التحصين يتطلب تفسيرات تكمّل تطبيق اتفاق الطائف، لا سيما إلغاء الطائفية السياسية”.

يعرف الرئيس سليمان أن كثيرين يخشون هذا الاستحقاق الذي حال دون التعرض لطائفية النظام السياسي. يقول “أنا أدعو إلى عدم الخوف من ذلك، اليوم صارت هناك ضرورة لإشراك كافة المكوّنات داخل الأوطان والدول، أميركا تحتاج ذلك كما فرنسا إلخ.. صيغة المناصفة (بين المسلمين والمسيحيين) أنقذت لبنان، لكن يجب أن ننتج قانونا انتخابيا يُبعد الاختيار الطائفي، صحيح أننا نحترم اختيار فلان على أساس مذهبي، لكن يجب أن يكون الخيار على أساس وطني وعلى أساس الكفاءة أيضا”.

يذهب ميشال سليمان أبعد في انتقاده لما طرح في السنوات الأخيرة “عندما يطالبون بالقانون الأرثوذكسي يبتعدون عن المناصفة، وهؤلاء الذين يتحدثون عن الحفاظ عن الوجود المسيحي هم يبتعدون، بذلك، عن حماية هذا الوجود”. في هذا الموقف الواضح رفض لذلك القانون الذي طالبت به التيارات المسيحية الكبرى، والتي دعت إلى انتخاب كل طائفة لنوابها بزعم تخليصها من هيمنة أصوات الطوائف الأخرى.

من ذلك المنطق أسأله حول ما يقال عن تهميش يعاني منه المسيحيون ما ينتج هواجس تفضي إلى “القانون الأرثوذكسي”. يسارع بالردّ “أنا لست مهمشّا! بغياب الرئيس حاليا، أدركت كم أن للرئيس قدرات وصلاحيات لا تحتاج إلا إلى بعض التوضيح، ثم إن علينا الالتزام بانتخاب رئيس في الوقت المحدد”.

حول أزمة الفراغ الرئاسي الحالي، لا يرى الرئيس سليمان أن الحلّ في التمديد “أنا ضد التمديد”، لكنه يدعو إلى التمثّل ببقية الدول التي تعدّل من قوانين المجمع الانتخابي المطلوب لانتخاب رئيس “أنا أفضّل انتخاب رئيس بالنصف زائد واحدا من عدم انتخاب رئيس”.

لكني أستوضح، وهل المشكلة في لبنان هي نظامه الداخلي أم التعقيدات الإقليمية وسلاح حزب الله.. إلخ؟ يعود بي إلى مشكلة عدم انتخاب رئيس “الخطر أن تتدهور مؤسساتنا من خلال هذا الشغور، لذلك علينا التمسك بعقدنا الاجتماعي، وتحصين لبنان هو بتحييده عن الصراعات”.

“إعلان بعبدا” مفصل عزيز على قلب ميشال سليمان، وهو إنجاز لا بد أنه فخور به. “إعلان بعبدا هو الحلّ”، يقول لي، ويضيف “وافقوا جميعا على مضمون الإعلان بساعة تخلي كما يسمّيها وليد جنبلاط، كانوا جميعا مقتنعين بعد ساعات على النقاش، كلهم، ميشال عون ومحمد رعد ونبيه بري.. إلخ، كانوا مقتنعين”، ولماذا لم يتم الالتزام؟ أسأل آليا، فيأتيني جواب اليقين “لأنه أتاهم تكليف بالدخول في الحرب في سوريا”.

 

توابع الوضع السوري

 

إلى أين يذهب الوضع في سوريا؟ يجيب الرئيس سليمان بلهجة العارف “ذاهبون إلى تسوية لذلك توجهت للأمين العام للأمم المتحدة والهيئات الدبلوماسية والدولية من خلال مؤتمر صحفي وبعثت رسالة تعبّر عن هواجس لبنان المرتبطة بالحلّ السوري”، ماذا تقصد؟ “لبنان لا يناسبه التقسيم في سوريا، لا سيما إذا ذهبوا هناك باتجاه الكانتونات الطائفية. فوجود كانتون ذي لون مذهبي واحد على حدودنا، إضافة إلى وجود إسرائيل جنوبا سيخنق لبنان. ربما أن قيام كانتونات مذهبية متعددة هو أخفّ ضررا على لبنان من كانتون طائفي واحد على حدوده. يكفي تخيّل تعاطي قسم من اللبنانيين مع هذا الكانتون الحدودي الطائفي، الأمر سيؤدي إلى مشكلات قد تقود إلى اندثار الكيان اللبناني المعروف بصيغته المميّزة في العالم”. لكن الرئيس يخرج من هذه الفرضيات إلى أمنية “أفضلُ شيء لنا في سوريا هو وحدة سوريا مع إمكانية إنشاء لامركزية إدارية على أساس المحافظات الحالية بصيغة موسعة”.

أحاول أن أستكشف ما يعرفه عن التسوية المقبلة في سوريا وعمّا إذا كانت مخفّفا أو محفّزا لـ”الوصاية” الإيرانية على لبنان، وهل التسوية ستحوّل حزب الله إلى حزب سياسي داخلي؟

لا يتوقف الرئيس سليمان عند “حالة” حزب الله، يقول لي “حزب الله أو غيره، موضوع الوصاية ينتج عن إرادتين، إرادة الوصيّ وإرادة الموصى عليه. لا أحد يرفض الوصاية وبالإمكان فرضها عليه، إلا إذا كان مستفيدا من تلك الوصاية”، ثم يكمل “أنا أرى أن الكانتونات المذهبية ستعززُ الوصاية، وهي لن تنفع الموصى عليه”.

أعود إلى الرئيس بموضوع الرئاسة. أسأله: هل حين غادرت قصر الرئاسة كنت تتوقع انتخاب رئيس؟ يجيبني “كنت أحسب أن الأمر سيسبب صدمة لدى اللاعبين تقود لانتخاب رئيس، لكن يبدو أن المخطط أنهم لا يريدون رئيسا في ظل الوضع السوري وفي ظل التدخل في سوريا”، ثم يستطرد أكثر “هم لا يريدون رئيسا يتكلّم باسم مصالح لبنان على طاولة المفاوضات السورية السورية في جنيف”. كيف ذلك؟ “من سيقول ما هي هواجسنا؟ من سيضرب على الطاولة؟ فحوى رسالتي إلى بان كي مون تطال هذه الهواجس، رفضت الكانتونات المذهبية، طالبتُ بترسيم حدود الكيان السوري الذي يُعمل على تشريعه، ببرمجة عودة النازحين السوريين، وباستفادة لبنان من ميزانيات إعادة الأعمار المتعلّقة بالشأن السوري تعويضا له عن بناه التحتية التي تضرّرت بسبب النزوح (يطالب بمبلغ يتراوح ما بين 10 و15 مليار دولار من مئات المليارات التي ستخصص لإعادة إعمار سوريا).

هل تتفهم قرار السعودية وقف الهبة للجيش اللبناني؟ “لا أتفهمها” يجيب ثم يستدرك، “لكن 60 بالمئة من المشكلة عائد إلى تصرفاتنا تجاه السعودية ودول الخليج، وخاصة تجاه المساعدة بحدّ ذاتها، التي قالوا إنهم لا يريدونها وإنها مشروطة وإن هناك صفقات مع المملكة. لا شروط ولا صفقات، لكنهم واصلو هذا السلوك إلى أن وصلنا إلى مرحلة العداء مع السعودية”.

يتأمل سليمان الأمر “كنت أتمنى أن لا يقطعوا الهبة، فإذا بقي في لبنان 60 بالمئة يريدون لبنانا متحررا عربيا، فلماذا نحرم الجيش اللبناني من هذ الهبات؟”، ثم يستطرد “لكني أعتقد أنها ستعود”.

يعترف الرئيس سليمان أنه ليس بصدد منافسة الأحزاب السياسية في لبنان فتلك تعتمد على الاستقطاب المذهبي وعلى ذاكرة شهداء ومفقودين وعلى مال متوفّر بشكل “غير معقول”، لكنه مستمر في سعيه معتمدا على شخصيات وطنية كفؤة ومعتدلة، وعلى رصيده المعنوي.

أسأله هل لديك خيار لاسم رئيس، يقول “لا”، لكنه يفضل رئيسا “من خارج الاصطفافات الحالية”، رغم أنه يرجح انتخاب أحد المرشحين (ميشال عون، سليمان فرنجية) في غضون الأشهر المقبلة.

يرفض سليمان الحديث عن رئيس مسيحي قويّ ويتساءل “ما هو دور المسيحي؟ العضلات، المال، الفكر؟”، ويجيب “دور المسيحي هو القلب الجامع، دور الرسالة كمال قال يوحنا بولس الثاني، أما إذا كانت القوة أعدادا، فلتحكم الأكثريات (…). أنا حين انتخبت انتخبني 120 نائبا. لا يعتبرون ذلك قوة لأن الرئيس لا يملك حزبا سياسيا وهل كان ديغول يمتلك حزبا، وهل جبران خليل جبران في هذا الزمن سيعتبر ضعيفا لأنه لا يمتلك حزبا أو ليس رئيس بلدية؟”.

حدثّني الرئيس عن توجّسه من التحالفات المذهبية فسألته هل هو خائف من تقارب سمير جعجع وميشال عون؟ فقال “لا لست خائفا، الأمور تتعالج لكن إذا تركت على سجيتها ولم يرتفع صوت يقول لا، تصبح الأمور مخيفة. أنا ضد الاستسلام لهذه التحالفات أنا مع المصالحات الاجتماعية والتاريخية، لكن لينتبهوا، لا لتحالفات سياسية بمنطلق ومنطق مسيحيين. إذن بمنطق سياسي عظيم، لكن هل التحالف الحالي هو بمنطق سياسي؟”.

في ذلك التساؤل ربما وجاهة حول المشهد السياسي الحالي في لبنان. لا أحد يتحدث عن تموضع طائفي، لكن بعض الأعراض تثير ارتيابا، لا سيما وأن موسم التسويات السورية، لا سيما في جوانبها التقسيمية الفيدرالية، قد تروّج لمشاريع قديمة جديدة لا تتسق مع وحدة البلد.

هذه هواجس الرئيس، الذي باعتداله، حين كان في قصر بعبدا، لم يرق له أي تطرّف.

 

 

صحيفة العرب

محمد قواص