قبل عدة أشهر من نهاية ولايته الرئاسية ومغادرته البيت الأبيض، أدلى الرئيس الأميركي باراك أوباما بسلسلة مقابلات للصحافي الأميركي في صحيفة «ذي اتلانتيك» جيفري غولدبرغ المؤيد لإسرائيل أظهر فيها القصة الحقيقية لموقف أوباما من العديد من القضايا التي واجهت العالم ومنطقة الشرق الأوسط وهاجم فيها دولاً ذات دور محوري مثل السعودية وشخصيات مهمة مثل الرئيس أردوغان.

ودرج أوباما في ربيع كل عام في شهر مارس، على منح غولدبرغ مقابلة تتسم عادة بالصراحة.

في هذا العام، حصل غولدبرغ على عدة مقابلات، إذ سمح له أن يزور البيت الأبيض أكثر من مرة، وأن يرافقه في الطائرة الرئاسية إلى كوالالمبور، وأن يلتقي مع كبار مسؤولي أوباما، بمن فيهم وزير خارجيته جون كيري، ومستشارة الأمن القومي سوزان رايس، ورئيس «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي اي) جون برينان.

ولكن بدلاً من أن ينشر غولدبرغ المقابلة على شكل سؤال وجواب مع أوباما، نشر مقالة مطولة جاءت بمثابة مراجعة كاملة وعميقة لسياسة الرئيس الأميركي الخارجية، وحملت عنوان «عقيدة أوباما».

وقد أثارت هذه المقالة الكثير من الجدل، بسبب المواقف التي أظهرتها عن السياسة الخارجية للرئيس الأميركي إزاء قضايا عدة وعلى رأسها ملفات الشرق الأوسط، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسوريا، والعلاقات الأميركية مع دول الخليج وغيرها. وحمل فيها أوباما كل فشل أو كارثة حول العالم للآخرين.

ولعل أبرز ما جاء فيها هو حديثه التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، حيث قال: “إنني فخور جدا بهذه اللحظة، لقد ذهب عني العبء الثقيل للحكمة التقليدية وآلية أجهزة أمننا الوطني. إن فكرة تعرض مصداقيتي للخطر، وأن مصداقية أمريكا كانت على المحك. ولذا كان علي أن أضغط على زر التوقف في تلك اللحظة، كنت أعرف أن هذا سيكلفني سياسيا. وحقيقة أنني كنت قادراً على التراجع بعيدًا عن الضغوط المباشرة والتفكير في مصلحة أمريكا، وليس فقط في ما يتعلق بسوريا ولكن أيضا فيما يتعلق بديمقراطيتنا، كان أصعب قرار اتخذته، وأعتقد أنه كان في نهاية المطاف قراراً صحيحاً”.

لاشك أن الكثيرين لم يعجبهم ما جاء في المقابلة، ولكن البعض وبدل العمل على تقييم ما جاء فيها، عمل على إلقاء اللوم على هوية الصحفي الذي أجرى المقابلة (جيفري غولدبيرغ) واستحضر ارتباطه باللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، بينما حاول آخرون الرد على ما جاء فيها ونقد نظرة أوباما إلى العالم وإلى الشرق الأوسط تحديداً.

أما المدافعون عنها فيعتبرون عقيدة أوباما نهجاً أكثر فاعلية وحكمة من أي نهج آخر خصوصاً أنه حقق العديد من الانجازات بأقل تكلفة متوقعة بالنسبة للمواطن الأمريكي.

مع ذلك تعد هذه المقابلة من أهم ما يجب الإطلاع عليه حول السياسة الدولية، وعقيدة – أو عقدة –  تعامل الولايات المتحدة في سياستها الخارجية مع القضايا المختلفة حول العالم.

في الأسطر التالية الترجمة الكاملة لهذه المقالة…

عقيدة أوباما

يوم الجمعة، ٣٠ آب/ أغسطس ٢٠١٣، اليوم الذي أعلن فيه الرئيس العاجز باراك أوباما النهاية المبكرة لعهد أمريكا كقوة عظمى وحيدة في العام، أو، بشكل آخر، اليوم الذي نظر به باراك أوباما الحكيم في هاوية الشرق الأوسط، وتراجع من الفوضى المستهلكة، بدأ بخطاب ناري ألقاه بالنيابة عن أوباما وزير خارجيته جون كيري، في العاصمة الأمريكية واشنطن. كان موضوع خطاب كيري، الشبيه بخطابات تشيرشل، هو قصف المدنيين بالغازات الكيميائية على يد رئيس النظام السوري بشار الأسد.

أوباما، الذي يخدمه كيري بإخلاص مع بعض السخط أحيانا، مرتبط بخطاب متماسك ومرتفع، وإن لم يكن ذات الخطاب العسكري المرتبط بتشيرشل، إذ أن أوباما يعتقد أن المانوية، أو العدائية الحادة المشكلة ببلاغة، والمرتبطة عادة بتشيرشل، كانت بسبب صعود هتلر، وكانت أحيانا دفاعية أمام الاتحاد السوفييتي، لكنه يعتقد كذلك أن الخطاب يجب أن يكون مدعوما بالسلاح باعتدال، خصوصا في المجال الدولي المعقد والمبهم الذي نعيشه اليوم.

يعتقد الرئيس أن الخطاب التشيرشلي، والأهم، التفكير التشيرشلي، هو الذي أخذ سلفه الرئيس الأمريكي جورج بوش نحو الحرب المدمرة في العراق، أما هو فدخل البيت الأبيض على أساس الخروج من العراق وأفغانستان، ولم يكن يبحث عن تنانين جديدة ليواجهها، وكان مهتما بانتصارات واعدة في صراعات اعتقد أنها غير قابلة للربح، إذ أخبرني بين رودز، نائب مستشاره لشؤون الأمن القومي، وأمين سره للسياسة الخارجية: “إذا قلت، مثلا، أننا سنخلص أفغانستان من طالبان ونبني ديمقراطية مناسبة مكانها، فإن الرئيس واعٍ أن شخصا ما، بعد سبع سنوات، سيحاسبك على هذا الوعد”.

لكن ملاحظات كيري في ذلك اليوم من أغسطس، والتي صاغ رودز جزءاً من مسودتها، تخللها غضب محق ووعود كبيرة، بما فيها التهديد الصريح بالهجوم القريب. كيري، مثل أوباما، كان خائفا من الخطايا التي يرتكبها النظام السوري ضمن محاولاته لإخماد الثورة التي كان عمرها عامين. في غوطة دمشق، قبل ذلك بتسعة أيام، قتل جيش الأسد أكثر من ١٤٠٠ شخص بغاز السارين. كان الرأي القوي داخل إداراة أوباما هو أن الأسد يستحق عقابا أليما. في اجتماعات “غرفة الأوضاع” التي تبعت هجوم الغوطة، كان رئيس عمال البيت الأبيض دينيس مكدونوج، هو الوحيد الذي حذر علانية من تبعات التدخل، وحتى جون كيري نفسه دعا للتدخل.

قال كيري في خطابه “كما اجتمعت العواصف الماضية في التاريخ؛ عندما تحصل جرائم واضحة ضمن قدرتنا على تغييرها، فإننا تلقينا تحذيرات من إغراءات النظر لجهة أخرى”، مضيفا أن “التاريخ مليء بالزعماء الذين حذروا من عدم التصرف، واللامبالاة، وخصوصا من الصمت عندما يكون الأخطر”.

كيري عد الرئيس أوباما واحدا من هؤلاء الرؤساء، وبعد عام من ذلك الخطاب، عندما شكت الإدارة بأن نظام الأسد كان مستمرا باستخدام الأسلحة الكيماوية، أعلن أوباما: “نحن كنا واضحين مع نظام الأسد أن رؤيتنا لنقل أو استخدام الأسحلة الكيماوية خط أحمر بالنسبة لنا، قد يغير حساباتي، وقد يغير معادلتي”.

وبالرغم من هذا التهديد، فإن أوباما بدا لعديد من النقاد غير مبال بمعاناة السوريين الأبرياء، ففي وقت مؤخر من صيف ٢٠١١، دعا أوباما لرحيل الأسد: “لأجل الشعب السوري، حان وقت تنحي الأسد”، دون أن يفعل شيئا ليقرب نهاية الأسد.

أوباما قاوم المطالب بالتحرك لأنه افترض، بناء على تحليلات المخابرات الأمريكية، أن الأسد سيسقط دون مساعدته، إذ أخبرني، دينيس روس، مستشار الشرق الأوسط السابق لأوباما، أن أوباما “اعتقد أن الأسد سيرحل مثلما ذهب مبارك”، بإشارة إلى التنحي السريع للرئيس المصري باراكأوباما بداية ٢٠١١، في اللحظة التي مثلت ذروة الربيع العربي. إلا أن تمسك الأسد بالسلطة لم تزد إلا رفض أوباما للتدخل المباشر. بعد عدة شهور من التشاور، أعطى أوباما المخابرات الأمريكية الصلاحيات لتدريب وتمويل الثوار السوريين، لكنه تشارك مع توقعات وزير دفاع حكومته السابق روبرت جيتس، الذي كان يسأل بشكل دوري بالاجتماعات: “أليس علينا أن ننهي الحربين اللتان نخوضهما قبل أن نبحث عن أخرى؟”.

سفيرة الولايات المتحدة الحالية للأمم المتحدة، سامنثا باور، التي تعتبر الأكثر ميلا للتدخل من بين مستشاري أوباما الكبار، طالبت مبكرا بتسليح الثوار السوريين، والتي كتبت أثناء عملها ضمن “فريق استشارات الأمن القومي” كتابا يقسو على الرؤساء الأمريكيين لفشلهم بالتدخل لمنع المذبحة، بعنوان “مشكلة من الجحيم”، وأصدر عام ٢٠٠٢، وأوصل الرئيس أوباما للسلطة عندما كان في مجلس الشيوخ الأمريكي، رغم عدم التوافق الأيديولوجي الكبير بينه وبين باور، وهي معروفة بأنها مؤمنة بالعقيدة المعروفة بـ “مسؤولية الحماية”، التي تعتبر أن السيادة لا يجب أن تعد منتهكة عندما يذبح بلد ما شعبه، وضغطت على أوباما ليؤيد هذه العقيدة في الخطاب الذي ألقاه عندما استلم جائزة نوبل للسلام في ٢٠٠٩، لكنه أنكر ذلك. أوباما، بشكل عام، لا يعتقد أن الرئيس يجب أن يعرض الجنود الأمريكيين للخطر لمنع الكوارث الإنسانية، ما لم تكن هذه الكوارث تشكل خطرا مباشرا على الولايات المتحدة.

باور، وفي بعض الأحيان، جادلت أوباما أمام مسؤولي “مجلس الأمن القومي” إلى مرحلة لم يعد يستطيع إخفاء غضبه بها، قائلا في إحدى المرات: “سامنثا، يكفي. لقد قرأت كتابك”.

أوباما، بعكس التدخليين الليبراليين، أحد المحتفين بواقعية السياسة الخارجية للرئيس جورج بوش الأب، وتحديدا مستشاره للأمن القومي برينت سكوكروفت (أوباما قال لي مرة: “أنا أحب هذا الرجل”). بوش وسكوكروفت أخرجا جيش صدام حسين من الكويت عام ١٩٩١، واستطاعا تفكيك الاتحاد السوفييتي، كما هاجم سكوكروفت، نيابة عن بوش، زعماء الصين بعد مجزرة ميدان تيانانمين. وبينما كان أوباما يكتب بيان حملته الانتخابية “جرأة الأمل” عام ٢٠٠٦، شعرت سوزان رايس، المستشارة غير الرسمية حينها، أنه من الضروري تذكيره بتضمين سطر واحد على الأقل احتفاء بالسياسة الخارجية للرئيس بيل كلينتون، لموازنة الاحتفاء الذي أظهره لبوش وسكوكروفت.

عند اندلاع الانتفاضة السورية، بداية ٢٠١١، جادلت باور أن الثوار، الذين خرجوا من صفوف الشعب السوري، يستحقون الدعم الأمريكي الواضح، بينما أشار آخرون إلى أن الثوار كانوا مزارعين وأطباء ونجارين، مقارنين هؤلاء الثوار بالرجال الذين انتصروا بحرب استقلال أمريكا.

أوباما قلب الفكرة برأسه، وقال لي مرة: “عندما يكون لك جيش محترف، مسلح جيدا ومدعوم من دولتين كبيرتين – إيران وروسيا – ولديهما رهانات كبيرة على ذلك، ويقاتلون ضد مزارع ونجار ومهندس بدؤوا كمتظاهرين، ثم رأوا أنفسهم في معمعة صراع أهلي”، مضيفا بعد صمت قليل: “فإن المفهوم الذي سنحصل عليه – بطريقة نظيفة لا تلزم القوات المسلحة الأمريكية – غيرت المعادلة على الأرض، لم تكن صحيحة إطلاقا”. الرسالة التي أوصلها أوباما في خطاباته ومقابلاته كانت واضحة: لن ينتهي مثل الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، الذي توسع بشكل مأساوي ومبالغ به في الشرق الأوسط، وملأت قراراته عنابر مستشفى “والتر ريد” العسكري بالجنود المصابين، وكان عاجزا عن إيقاف طمس سمعته، حتى عندما أعاد مواززنة قراراته في فترة حكمه الثاني. أوباما سيقول بشكل خاص أن المهمة الأولى لأي رئيس أمريكي في المجال الدولي بعد فترة بوش: “لا تكن أحمقا”.

تحفظ أوباما أغضب باور والآخرين في فريق الأمن القومي خاصته، الذي كان يرجو التدخل. هيلاري كلينتون، عندما كانت وزيرة خارجية أوباما، طالبت برد مبكر وحازم لعنف الأسد. في ٢٠١٤، بعد أن تركت الحكومة، أخبرتني كلينتون أن “الفشل ببناء قوة مقاتلة موثوقة من الشعب الذين كانوا من أطلق المظاهرات ضد الأسد، ترك فراغا كبيرا ملأه الجهاديون الآن”. عندما نشرت “أتلانتك” هذا التصريح، وتقييم كلينتون بأن “الأمم العظمة تحتاج مبادئ ناظمة، ليس من بينها (لا تقم بأشياء غبية)”، غضب أوباما بشكل جنوني، بحسب أحد مستشاريه الكبار. لم يفهم الرئيس كيف يمكن أن تكون قاعدة “لا تكن أحمقا” شعارا جدليا. بين رودز يستذكر أن “الأسئلة التي كنا نسألها في البيت الأبيض كانت: من يقف تحديدا في جوقة الحمق؟ من الداعم للحمق؟”. احتلال العراق، بحسب ما يعتقد أوباما، كان يجب أن يعلم التدخليين الديمقراطيين مثل كلينتون، الذين صوتوا بإجازة العملية، مخاطر الحمق. (كلينتون اعتذرت سريعا لأوباما عن تعليقاتها، وأعلن الناطق الرسمي باسم كلينتون أن كليهما تجاوزا الموضوع على شارع مارثا عندما تقاطعا هناك).

مثلت سوريا، بالنسبة لأوباما، منحدرا خطيرا مثل منحدر العراق. في فترته الأولى، وصل لقناعة أن عددا محدودا من التهديدات في الشرق الأوسط تتطلب تدخلا عسكريا أمريكيا مباشرا، بما في ذلك تنظيم القاعدة، تهديدات وجود إسرائيل (أخبرني مرة “سيكون سقوطا أخلاقيا بالنسبة لي كرئيس للولايات المتحدة أن لا أحمي إسرائيل”)، وغير بعيد عن أمن إسرائيل: تهديد إيران المسلحة نوويا. خطر نظام الأسد على الولايات المتحدةلم يرق إلى هذه الدرجة.

بالنظر لرفض أوباما للتدخل، فإن الخط الأحمر الواضح الذي رسمه للأسد في صيف ٢٠١٢ كان صادما، حتى لمستشاريه، إذ قال لي وزير دفاعه، حينها، ليون بنيتا: “لم أكن أعلم أن هذا سيحصل”، كما تم إبلاغي أن نائب أوباما جو بايدن حذره مرارا من رسم خط أحمر على الاسلحة الكيماوية، خشية أن يأتي يوم يضطر به فرضه بالقوة.

كيري، في خطابه، في ٣٠ آب/ أغسطس ٢٠١٣، اقترح أن الأسد يجب أن يعاقب جزئيا لأن “مصداقية ومستقبل مصالح الولايات المتحدة وحلفائها كانت على المحك”، مضيفا أن “هذا مرتبط مباشرة بمصداقيتنا وتصديق الدول الأخرى للولايات المتحدة عندما تقول شيئا. هم يشاهدون ما إذا كانت سوريا ستنسحب من هذا، لأنهم ربما يستطيعون كذلك وضع العالم بخطر أكبر”.

بعد تسعين دقيقة من الخطاب، في البيت الأبيض، عزز أوباما رسالة كيري في بيان عام: “من المهم الاعتراف بأنه عندما يقتل ١٠٠٠ شخص، من بينهم مئات الأطفال البريئين، عبر استخدام السلاح الذي يقول ٩٨ أو ٩٩ بالمئة من العالم أنه لا يجب استخدامه في الحرب، ولا يكون هناك رد، فنحن نرسل رسالة بأن التطبيع العالمي لا يعني شيئا، وهذا يمثل خطرا لأمننا القومي”.

بدا أن أوباما وصل لخلاصة مفادها أن تشوه مصداقية أمريكا في منطقة ما من العالم سينحدر لغيرها، وأن مصداقية الولايات المتحدةالمتماسكة كانت فعلا على المحك في سوريا. أما الأسد، فيبدو أنه نجح بدفع الرئيس إلى مساحة لم يعتقد أنه سيذهب لها. أوباما يعتقد بشكل عام أن مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن، التي يزدريها بشكل سري، تعبد “المصداقية”، وتحديدا المصداقية التي ترافقها القوة، وهذا ما أدى لفيتنام عبر حماية المصداقية، بحسب قوله. داخل البيت الأبيض، أوباما يناقش أن “إسقاط القنابل على شخص ما لأنك تريد إثبات أنك تريد إسقاط القنابل على شخص ما، هو أسوأ سبب لاستخدام القوة”.

مصداقية الأمن القومي الأمريكية، كما تفهم في البنتاغون، ووزارة الخارجية، ومراكز الأبحاث الواقعة على مرمى حجر من البيت الأبيض، سلاح معنوي قوي، عندما يستخدم بشكل صحيح، يحافظ على شعور أصدقاء أمريكا بالأمن، ويبقي النظام العالمي متماسكا.

في اجتماعات الأبيض في ذلك الأسبوع المفصلي، بايدن، الذي يشارك أوباما بشكل كبير بقلقه من التوسع الأمريكي، ناقش بشدة أن “الدول الكبرى لا تخادع”. أقرب حلفاء أمريكا في أوروبا وعبر الشرق الأوسط اعتقدت أن أوباما كان يهدد بالعمل العسكري، وحتى مستشاروه اعتقدوا ذلك. في مؤتمر مشترك مع أوباما في البيت الأبيض، في أيار/ مايو، الذي سبق ذلك الاجتماع، قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إن “تاريخ سوريا يكتب بدماء شعبها، وهذا يحصل على مرأى منا”، في تصريح كان يهدف لتشجيع أوباما لأخذ إجراء أكثر حزما، بحسب أحد مستشاري كاميرون، الذي قال لي إن “رئيس الوزراء كان يشعر أن الرئيس أوباما يجب أن يفرض الخط الأحمر”. سفير السعودية في واشنطن، في ذلك الحين، عادل الجبير، قال لأصدقائه ومسؤوليه في الرياض أن الرئيس كان مستعدا أخيرا ليضرب، قائلا إن “أوباما شعر أهمية ذلك”، كما أكد الجبير، الذي أصبح الآن وزير خارجية السعودية، أن “أوباما سيضرب بلا شك”.

وبالفعل، أمر أوباما البنتاغون بإعداد قائمة أهداف، وكانت خمسة مدمرات أمريكا من نوع “أرلي بورك” في البحر المتوسط مستعدة لإطلاق صواريخ عابرة للقارات على مواقع النظام، كما كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أكثر المتحمسين للتدخل من بين زعماء أوروبا، يستعد للضرب كذلك. وطوال الأسبوع، أظهر مسؤولو البيت الأبيض بشكل علني أن الأسد ارتكب جريمة ضد الإنسانية، ليمثل خطاب كيري ذروة هذه الحملة.

لكن الرئيس بدأ يشعر بالتوجس، فبعد الأيام التي تبعت قصف الغوطة بالكيماوي، سيقول لي أوباما لاحقا، إنه وجد نفسه يتراجع عن فكرة هجوم غير مدعوم بقرار دولي أو من الكونجرس. الشعب الأمريكي بدى غير متعاطف مع التدخل في روسيا، وكذلك واحد من الزعماء القلة الذين يحترمهم أوباما، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أخبرته أن بلده لن تشارك في حملة سوريا. وبتطور مذهل، الخميس، ٢٩ آب/ أغسطس، نفى البرلمان البريطاني مباركته لأي هجوم، وأخبرني كيري عندما سمع ذلك: “بيني وبين نفسي، لقد أخطأنا”.

أوباما تشوش كذلك من زيارة مفاجئة في وقت مبكر ذلك الأسبوع، قام بها جيمس كلابر، مدير المخابرات الوطنية، الذي قاطع الملخص اليومي للرئيس، تقرير التهديدات اليومي الذي يستقبله أوباما كل صباح من محللي كلابر، ليوضح تماما أن المعلومات الاستخبارية حول استخدام سوريا لغاز السارين، مع كونها متماسكة، إلا أنها لم تكن “سلام دانك (أي مؤكدة بشكل جازم)”. كلابر، رئيس مجتمع المخابرات المسكون بالفشل الذي سبق حرب العراق، لم يكن سيعطي وعودا، على شاكلة رئيس جهاز الاستخبارات المركزي جورج تينيت، الذي ضمن لجورج بوش “سلام دانك” في العراق.

وبينما كان البينتاغون وأجهزة الأمن القومية في البيت الأبيض تتحرك نحو الحرب (جون كيري أخبرني أنه كان يتوقع ضربة في اليوم الذي سبق الخطاب)، وصل الرئيس لقناعة أنه كان يسير نحو فخ، أعده له حلفائه وخصومه، وبالتوقعات التقليدية لما يجب على أي رئيس أمريكي القيام به.

العديد من مستشاري الرئيس لم يدركوا عمق شكوكه، وحكومته وحلفائه لم يكونوا على علم بها، لكنها كانت تتنامى. مساء الجامعة، أعلنأوباما أنه ببساطة غير مستعد لتفويض ضربة، وطلب من مكدونوج، رئيس عمال البيت الأبيض، أن يسير معه على الجانب الجنوبي للبيت الأبيض. لم يختر أوباما مكدونوج عبثا، فهو أكثر مساعدي أوباما عداء للتدخل العسكري الأمريكي، وشخص، بكلمات أحد زملائه، “يفكر بطريقة الفخوخ”.أوباما، الواثق بنفسه بشكل غير طبيعي عادة، كان يبحث عن تأكيد، ويحاول إيجاد طرق يفسر بها تغير رأيه، سواء لمساعدين أو للرأي العام. ظل مكدونوج وأوباما خارجا لمدة ساعة، وأخبره أوباما أنه كان قلقا من أن يستخدم الأسد المدنيين كـ “دروع بشرية” حول الأهداف الواضحة، كما أشار إلى فجوة كامنة في الضربات المقترحة: الصواريخ الأمريكية لن تطلق على المواقع الكيميائية، خشية أن تبعث غازات سامة في الجو، لكنها ستستهدف المواقع العسكرية التي استلمت هذه الأسلحة، لا الأسلحة نفسها.

أوباما شارك مع مكدوج استياء قديما لديه: لقد تعب من مشاهدة واشنطن تنجرف بشكل غير محسوب نحو البلدان المسلمة. قبل أربع سنوات، اعتقد الرئيس أن البنتاجون “جره” نحو تعزيز الجنود في أفغانستان، وهو يشعر أنه يجر مجددا.

عندما عاد الرجلان للمكتب البيضاوي، أخبر الرئيس مساعديه أنه يخطط للتراجع، ولن يكون هناك هجوم في اليوم التالي، لأنه يريد الرجوع للكونجرس لإجراء تصويت. المساعدون في الغرفة كانوا مصدومين. سوزان رايس، مستشارة أوباما لشؤون الأمن القومي الآن، ناقشت أن الدمار الذي سيصيب مصداقية أمريكا سيكون كبيراً وطويلاً، فيما فهم الآخرون بصعوبة شديدة كيف يمكن أن يراجع الرئيس نفسه في اليوم الذي يسبق ضربة مخططة. أوباما كان هادئا تماما، إذ أخبرني رودز “إذا كنت قريبا منه، يمكن أن تعرف كيف يكون متردداً حول شيء ما، عندما تتقارب نسب الدعم له، لكنه كان مرتاحا تماما”.

قبل مدة ليست بالطويلة، طلبت من أوباما أن يصف شعوره في ذلك اليوم، فسرد لي المخاوف العملية التي انتابته:

“كان هناك محققون من الأمم المتحدة على الأرض يكملون عملهم، ولم نستطع المخاطرة بإجراء ضربة وهم هناك.

العامل الثاني الكبير هو فشل كاميرون بالحصول على موافقة برلمانه”.

العامل الثالث، والأكثر أهمية، بحسب ما أخبرني هو أن “تقييمنا كان أننا بينما نستطيع تحقيق بعض الدمار للأسد، فإننا لن نتمكن عبر هجوم صاروخي، من إنهاء الأسلحة الكيميائية نفسها، وما سأواجهه حينها هو ظهور هرب الأسد من الضربة، وادعاءه أنه هزم أمريكا، وأن الولايات المتحدة تحركت بشكل غير قانوني بغياب تفويض أممي، وهذا سيقويه بدل أن يضعفه”.

أما العامل الرابع، كان ذا أهمية فلسفية أعمق: “هذا يأتي في سياق شيء كان يؤرقني من فترة، وهو أنني استلمت السلطة باعتقاد قوي أن مدى القوة التنفيذية في قضايا الأمن القومي كبير جدا، لكنه ليس بلا حد”.

أوباما كان يعلم أن قراره بعدم قصف سوريا سيغضب حلفاء أمريكا، وقد فعل، إذ أخبرني رئيس وزراء فرنسا مانويل فالس أن حكومته كانت قلقة من تبعات عدم التدخل المبكر في سوريا عندما ظهرت كلمة “التنحي”، فقد أخبرني فالس: “عندما لم نتدخل مبكرا، خلقنا وحشا”، مضيفا: “كنا متأكدين أن إدارة الولايات المتحدة ستوافق، وقد وضعنا قائمة بالأهداف مع الأمريكيين، وكانت هذه مفاجئة كبيرة. إذا قصفنا كما كان مخططا، فإن الأمور ستكون مختلفة اليوم”. ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد آل نهيان، كانت غاضبا من أوباما لـ “تخليه” عن حسني مبارك، الرئيس المصري المخلوع، وأظهر لزواره الأمريكيين أن أمريكا يقودها رئيس “غير جدير بالثقة”. العاهل الأردني عبد الله الثاني، الذي يشعر بالفزع مما رآه من رغبة أوباما غير المنطقية بإبعاد أمريكا عن حلفائها التقليديين السنة العرب في المنطقة، وإنشاء تحالف جديد مع إيران، داعمة الأسد الشيعية، اعترض بشكل خاص، قائلا: “أظن أنني أؤمن بالقوة الأمريكية أكثر من أوباما نفسه”. السعوديون كانوا غاضبين كذلك، فهم لم يثقوا يوما بأوباما، فهو وصفهم قبل أن يصبح رئيسا بكثير بأنهم “المدعوون بحلفاء الولايات المتحدة”، إذ أبلغ الجبير زعماؤه في الرياض بأن “إيران هي القوة العظمى الجديدة في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة هي القديمة”.

قرار أوباما أحدث هزات في واشنطن كذلك. جون ماكين، وليندسي جراهام، أكبر الصقور في مجلس الشيوخ، التقيا أوباما في البيت الأبيض بوقت مبكر ذلك الأسبوع وتلقيا وعدا بالهجوم، وأغضبهما هذا التحول المفاجئ. وصل الضرر حتى داخل الإدارة نفسها، فكل من وزير الدفاع حينها تشاك هيجل، أو وزير الخارجية جون كيري، كانا في المكتب البيضاوي عندما أبلغ الرئيس فريقه بما يفكر، ولن يعرف كيري حتى وقت متأخر ذلك المساء، ليقول لصديق له ذلك المساء: “لقد تلقيت صفعة”. (عندما سألت كيري مؤخرا عن تلك الليلة العصيبة، قال لي: “لم أكف عن التفكير، ووصلت إلى أن الرئيس كان لديه سبب للقيام بذلك، وصدقا، تفهمت ذلك”).

الأيام القليلة التالية كانت فوضوية. طلب الرئيس من الكونجرس تفويضا باستخدام القوة – عمل كيري الذي لا يمكن ضغطه لحشد الأصوات – وأصبح واضحا في البيت الأبيض سريعا أن الكونجرس له مصلحة قليلة في ضربة. عندما تحدثت مع بايدن مؤخرا عن قرار الخط الأحمر، أشار لملاحظة خاصة: “يهم أن تملك الكونجرس إلى جانبك، بخصوص قدرتك على تحقيق ما تريد، وأوباما لم يذهب للكونجرس ليخرج نفسه من المسؤولية، فقد كان لديه شكوكه في تلك المرحلة، لكنه علم إن اراد فعل أي شيء، فإن الأفضل أن يكون الشعب إلى جانبه، أو أن هذا لن يكون قرارا طويل الأمد”. تناقض الكونجرس الواضح أقنع بايدن أن أوباما كان صادقا بخشيته من المنزلق، متسائلا: “ما الذي يحصل إذا أسقطت طائرة؟ ألن ندخل ونقوم بعمليات إنقاذ؟”، مؤكدا أن “أوباما كان بحاجة لدعم الشعب الأمريكي”.

وسط هذه المعمعة، أتى منقذ لم يكن بالحسبان، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في قمة العشرين، التي عقدت في سان بطرسبيرج، في الأسبوع الذي تبع التراجع عن القرار بشأن سوريا، سحب أوباما بوتين جانبا، بحسب ما قال لي، وقال له إنه “إذا استطاع إجبار الأسد على التخلص من السلاح الكيميائي، فإن هذا سيلغي الحاجة للقيام بعمل عسكري”. خلال أسابيع، كيري، بالعمل مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، سيهندس إزالة معظم ترسانة السلاح الكيميائي السوري، الذي لم يكن الأسد يقبل الاعتراف به حتى.

هذا الترتيب سيحصل على احتفاء خاص من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان لديه علاقة طويلة مستمرة مع أوباما، إذ مثلت إزالة السلاح الكيميائي للنظام السوري “شعاع ضوء في منطقة مظلمة جدا”، بحسب ما أخبرني نتنياهو، بعد إعلان الاتفاق بقليل.

لم يعد جون كيري اليوم يظهر تسامحا مع أولئك الذين يناقشون، كما فعل هو شخصيا، أن أوباما كان يجب أن يقصف نظام الأسد لتعزيز قدرات أمريكا المتماسكة، قائلا: “ستكون قد أبقيت الأسلحة هناك، وستكون تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهذا غير منطقي، لكنني لا أستطيع إنكار أن فكرة تجاوز الخط الأحمر وعدم فعل أوباما لأي شيء مخطئة بالكامل”.

أوباما يفهم أن القرار الذي اتخذه بالتراجع عن الضربات الجوية، والسماح بانتهاك الخط الأحمر ستعامل بلا رحمة من المؤرخين، لكن هذه القرار يمثل لحظة رضا كبيرة بالنسبة له.

أخبرني أوباما: “أنا فخور جدا بهذه اللحظة، فالثقل الكبير للحكمة التقليدية وآلية جهاز أمننا القومي شطحت قليلا. إدراك أن مصداقيتي ومصداقية الولايات المتحدة كانت على المحك. وبالنسبة لي، فقد علمت أن ضغط زر التوقف المؤقت في تلك اللحظة سيكلفني سياسيا. وحقيقة أنني كنت قادرا على الانسحاب من الضغوط المباشرة والتفكير بعقلي أنا بما هو بمصلحة أمريكا، ليس فقط بمنظور سوريا، بل منظور ديمقراطيتنا، كان قرارا صعبا اتخذته، وأعتقد في النهاية أنه كان قرارا صحيحا”.