نعيش اليوم في مرحلةٍ عصيبة من تاريخ أمّتنا، وعنوانها الفرقة والتمزّق، وقد رأينا أنّ الفرقة والتمزّق صارا العنوان العام في علاقات طلاب الحوزات العلميّة مع بعضهم، فتشتتوا إلى جماعات مزّقتها السياسة والفكر والثقافة والاجتهاد في الدين، وفي بعض الأحيان مزّقتها المصالح الشخصيّة والإملاءات الشيطانيّة. وفي كلّ يوم نشهد المزيد من التمزّق والانقسام، حتى انقطعت عرى التواصل الاجتماعي بين كثير من الحوزويّين، ونبذنا بعضنا بعضاً، فما ترى من قريةٍ إلا وعلماء الدين يختلفون فيها، وما ترى من مدينةٍ علميّة إلا وصارت جماعات وأحزاباً متقاطعة.. لا يلقي أحدهم السلام على هذه الجماعة ولا يلاقي أخاه بالبُشر والابتسامة.. وها هي سهرات وليالي ولقاءات الكثير من طلاب العلوم الدينية غدت ـ ولا حول ولا قوّة إلا بالله ـ مليئةً بالغيبة والبهتان والنميمة والوشاية والصراخ والتوتّر، وعلى أحسن حال مليئةً بالفراغ والعبثية، بدل أن تكون عامرةً بقراءة القرآن وتدارس العلم وتقديم الخدمة في الفكر والكلمة لقضايا المسلمين المعاصرة.. وبدل أن تكون الحوزات العلميّة عنوان السلام والتلاقي بين المؤمنين صارت هي وشخصيّاتها ـ مع الأسف الشديد ـ عنواناً لفُرقة القواعد الجماهيريّة في غير بلد وموطن.. أليس معيباً أن نصبح نحن الحوزويين أزمةً من أزمات عالمنا الإسلامي بدل أن نساهم في حلّ أزمات هذا العالم المسلم؟! حتى فُضحنا بين الناس وصرنا على كلّ شفة ولسان.. في كلّ مناسبةٍ قنبلةٌ تنفجر تتطاير شظاياها لتمزّق جسدنا الاجتماعي.. وتتوالى المناسبات وما أكثرها..

لقد تعاظمت انتماءاتنا الصغيرة على حساب انتمائنا الإسلامي الكبير.. مشهدٌ تقطر له العيون دماً وتجفّ.. الحسين الذي هو عنوان وحدتنا ورمز عنفواننا وتلاقينا.. الحسين الذي حوّلناه من قاسمنا المشترك إلى مناسبةٍ نقصف فيها بعضنا بعضاً.. ليس في يدي إلا أن أقول بضع كلمات.. فلا حيلة لشخصٍ بسيط مثلي سواها.. عساها تخرجني من عهدة التكليف الجاثم على كتفي.. إنّني كطالبٍ بسيط للعلوم الدينيّة قضيت وما أزال قرابة عشرين عامّاً في حاضرة علميّة كبيرة، أعلن أنّني آيسٌ من تلاقي الكبار ونهوضهم.. ولست آيساً من شيء يمكن أن يقوم به صغار الطلبة أمثالي.. إنّني أدعو إلى تشكيل جمعيّات تواصليّة في الحوزات العلمية، لاسيما في المدن العلمية الكبرى، كـ (جمعية تسامح الطلابية) أو (جمعية تواصل الطلابيّة) أو (جمعية تلاقي الطلابية) أو.. وهدفها نشر ثقافة التسامح بين طلاب العلوم الدينية.. ونشر ثقافة التواصل والتزاور والتعاضد.. ونشر ثقافة التماس العذر لبعضنا.. ونشر ثقافة الاختلاف والدفاع عن الحقّ كلّ من موقعه لكن بما يحفظ حرمات المؤمنين.. ويعمل على تقوية وجودنا الديني الكبير وليس تضعيفه.. ونشر قيمة الخُلُق الحسن.. ونشر ثقافة التهدئة ومنطق الهدنة بعيداً عن القصف الإعلامي المتبادل.. وبعيداً عن مبالغات بعضنا في قضايا الدين لتبرير شهوته الغضبيّة أو إسقاط إعاقته الشخصيّة على المفاهيم الدينية.. فيا اخوتي الطلاب وأنا أقلّكم.. تعالوا لنقيم مبادرات.. تسعى لتخفيف حدّة الكراهية المتعاظمة فيما بيننا.. هذا هو العنوان.. وهذه هي الأولويّة اليوم.. وأمّا التفاصيل فيجب أن نفكّر فيها جميعاً بحسب الزمان والمكان.. مستغلّين كلّ وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.. ألا يمكننا الدفاع عن الدين إلا بهذه الطريقة العدوانية الغاضبة التي أقست قلوبنا ومزّقت شملنا وبدّدت جمعنا وأنهكت قوانا؟! ألا نجرّب طرقاً أخرى أكثر هدوءاً ورحمةً وحبّاً وأبوّةً وعاطفة؟!

هل جرّبنا طرقاً أخرى وفشلت حتى ذهبنا خلف طرق القسوة والشدّة والفظاظة والغلظة والسخرية والإهانة والإبعاد والنبذ والتحريض وشيطنة الآخرين ومنطق اللوبيات؟! لا نريد أن نوقف الاختلاف.. انتقد واملأ الدنيا بنقدك، لكن بهدوء وبلا عدوانية وبلا تشفٍّ أو انتقام.. لقد ضاقت الناس ذرعاً بنا.. حتى صرنا حديثهم الساخر أو الآسف.. ألا من ناصر ينتصر للمحبّة والتسامح بين المؤمنين؟! ألا من مغيث يغيث الاخوّة المغتالة بين أهل الدين؟!

ألا من ذابٍّ يذبّ عن حرمة الأخلاق والاتزان والوقار؟! لا يهمّني من هو المسؤول، فقد وقع ما وقع، فلنفكّر في الحاضر وللمستقبل.. أرجوكم ارحمونا.. وارحموا هذه الأمّة الضعيفة.. لنفكّر جميعاً بما هو أجدر وأقوم.. لنفكّر ببناء أوطاننا وتنميتها اقتصاديّاً وثقافيّاً واجتماعياً وتربويّاً وأخلاقيّاً.. بدل تناحرٍ وتقاتل لا نهاية له، وليس لأصحابه منه إلا العناء والتعب والنصب.. ولعلّ ما في الآخرة أعظم وأشدّ..   الشيخ حيدر حب الله