في الظاهر، الانتخابات البلدية تقترب، والجميع يستعدّ لها. ولكن، في العمق، الانتخابات تبحث عن سبيل إلى التأجيل. فكيف يمكن التفكير فيها وسط هذا الكمّ من التوترات والمخاوف الأمنية المذهبية... الطبيعية والمصطنعة؟ يجدر التأكيد أوّلاً أنّ تأجيل الانتخابات البلدية لن يكون ناتجاً عن التوترات والمخاوف والإشاعات الأمنية المتلاحقة في الأيام الأخيرة، وتحديداً منذ أن أعلنت السعودية موقفها بوقف الهبة المقررة للجيش والقوى الأمنية اللبنانية.

أساساً، القوى السياسية النافذة تُراوِح مواقفها الحقيقية من الانتخابات بين الرافض والمتحفِّظ. والكثيرون يوحون بأنهم يقومون بواجبهم تجاه هذا الاستحقاق، لكنهم ينتظرون أن تأتي عملية التعطيل من جانب الآخرين.

لذلك، لن تتسبّب الهواجسُ الأمنية بإلغاء الانتخابات المفترَض إجراؤها بعد شهرين، بل هي ستمنح الراغبين في التعطيل ذريعة يحتاجون إليها. وهذه الهواجس باتت تتلاحق بوتيرة الساعات لا الأيام:

توترٌ مذهبي بعد مواجهةٍ نارية في السعديات، معلوماتٌ مسرَّبة عن استفاقة مفاجئة للخلايا الإرهابية النائمة في مناطق عدة، إشاعات عن سيارات مفخَّخة في الضاحية الجنوبية وصور أعقبتها حواجز لـ»حزب الله» وتشديد في التدابير، النزول الغاضب لمناصري «الحزب» إلى الشارع ردّاً على تلفزيون سعودي...

قبل ذلك، بيانٌ مذهبي مشبوهٌ ومُقلِق وزَّعه «مجهولون» في الطريق الجديدة، تسريب معلوماتٍ عن تأطير ميليشيوي جديد في طرابلس... وطبعاً ترقّبٌ دائم لمخاوف حقيقية قد تبرز في أيّ لحظة من عرسال وجرودها إلى عين الحلوة وجوارها!

في أيّ حال، لا أحد يتحمَّس فعلاً للانتخابات البلدية سوى القوى المسيحية، وتحديداً النائب ميشال عون والدكتور سمير جعجع اللذين يعتقدان أنهما بتحالفهما المستجدّ يستطيعان اكتساحَ غالبية البلديات في البلدات المسيحية أو المختلطة، باستثناء مناطق محددة لها طابعها الخاص كالمتن وزغرتا مثلاً.

أما الشيعة فيؤكدون أنْ لا مشكلة لديهم في إجراء الانتخابات. فلا أحد سينافس حركة «أمل» و«حزب الله» في مناطقهما حتى إشعارٍ آخر، لا في الضاحية ولا في الجنوب ولا في البقاع. لكنّ تأجيل الانتخابات يوفِّر على «حزب الله» ملهاة عن مشاغله الكبرى، الأمنية خصوصاً في لبنان وسوريا.
وأما النائب وليد جنبلاط فلا يرفض الانتخابات بقوة، ولا مشكلة لديه في البلدات الدرزية في الشوف وعاليه.

ولكنه، في البلدات المسيحية والمختلطة، يفضِّل أن تؤجَّل الانتخابات إذا كان سيحكمها تحالف عون - جعجع، وأن ينتظر مرحلة تعود فيها المعادلة بين الرجلين إلى سابق عهدها من التنافس.

والمأزق الأكبر في الانتخابات البلدية هو ذلك الذي يقع فيه تيار «المستقبل»، وعلى مستويات مختلفة سياسية وأمنية:

1- خلال غياب الرئيس سعد الحريري عن لبنان، شهدت قواعد «المستقبل» تجاذباتٍ بين الكوادر والمناصرين، بدافع التسابق على المكاسب والنفوذ، أدّت إلى إضعاف العصب «المستقبلي» في كثير من المدن والبلدات. وهذه الأجواء تبلّغتها قيادة «المستقبل» التي تعمل على معالجة الموقف، مع عودة الحريري إلى لبنان.

وقد استغلَّت قوى وزعامات سنّية مناطقية هذه التجاذبات لتثبيت مواقعها في مواجهة التيار. ففي طرابلس تحالف ميقاتي - الصفدي - كرامي. وفي صيدا، هناك استحقاق التعاطي مع «الجماعة الإسلامية» وقوى أخرى. وفي البقاع الغربي، يحاور الحريري خصماً سياسياً هو الوزير السابق عبد الرحيم مراد الذي رمّم جزئياً علاقاته مع السعودية.

2- مع الانخراط في النزاع السوري، برزت نزعات وتيارات سياسية أو دينية متشدِّدة في داخل البيئة السنّية اللبنانية. ومع أنّ هذه التيارات بنت معظم شعبيّتها أساساً خارج «المستقبل»، فإنها وجدت تعاطفاً لدى بعض قواعد «المستقبل»، وأيّ انتخابات بلدية ستُجرى اليوم، ستكرِّس حضور هذه الجماعات.

3- هناك نموذج عرسال الواقعة رهينة الجماعات الإرهابية، كـ»جبهة النصرة» و»داعش». فالنازحون السوريون يفوقون بأعدادهم سكانها اللبنانيين. ويتحكَّم الإرهابيون ببعض مفاصل الحياة في البلدة، ويفرضون قوانينهم ويُصدرون أحكامهم أحياناً.

4- ليس تيار «المستقبل» في الوضعية التنظيمية المثالية لإدارة معركة الانتخابات البلدية. فماكينته المعروفة بقوّتها وقدراتها التنظيمية والمالية ليست اليوم في جهوزيّتها المعتادة. وربما يبالغ خصوم «المستقبل» في تضخيم الكلام على أزمات مالية في التيار، لكنّ القيّمين على مؤسساته لا ينفون وجود الأزمة، ولو ظرفياً.

إذاً، لن تكون الانتخابات البلدية هدفاً حقيقياً لـ»المستقبل»، ولا حتى لجنبلاط. وأما «حزب الله»، وعلى رغم ارتياحه التام لنتائجها المنتظرة، فلن يجد ضرراً في تأجيلها، خصوصاً إذا كانت ستفتح الباب لطرح السؤال الآتي: إذا كان ممكناً، وبهذه السهولة، إجراء انتخابات بلدية على مستوى لبنان كله، فما العائق أمام الانتخابات النيابية إذاً؟

ربما يذهب «الحزب» إلى استخدام ورقة الانتخابات البلدية للضغط على «المستقبل». وتقتضي المناورة في هذه الحال أن يضغط «الحزب» لإجراء الانتخابات ما يؤدي إلى إحراج «المستقبل». وعندئذٍ، يبدأ «الحزب» بمساومته: ماذا تعطينا سياسياً لكي نحقق لك رغبتك في تأجيل الانتخابات؟
ويُفاجَأ كثيرون من أين جاءت هذه المخاوف الأمنية في لبنان دفعة واحدة، بعد أشهرٍ من الاستقرار... النسبي طبعاً.

فمنذ أن تمَّ التوافق على تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام، بمشاركة وازنة لتيار «المستقبل»، هدأ الوضع الأمني في لبنان بسحر ساحر، وصودف توقُّف مسلسل التفجيرات الانتحارية في المناطق الشيعية من جهة، والاغتيالات المقابلة من جهة أخرى. لماذا؟

هناك أدلّة كثيرة على أنّ الأمن في لبنان هو قرار سياسي. ومن أواخر الأمثلة أنّ الحريري عاد إلى لبنان، وهو يجول في المناطق على رغم عدم وجود أيّ قرائن منطقية تؤكد أنّ المخاوف التي دفعته إلى الخارج قد زالت.

ومن الأمثلة أيضاً أنّ التوتر الأمني والهواجس والتسريبات تدافعت سريعاً بالتزامن مع الغضب السعودي من لبنان. وهذا ما يدفع إلى السؤال: هل إنّ لبنان مقبلٌ فعلاً على فصلٍ أمني جديد، أم إنّ هناك «أوركسترا» هدفها توزيع أجواء من القلق «المدروس» لتحقيق غايات معيّنة؟

بعض المتابعين متشائمون، ويقولون: الهواجس واقعية لا وهمية. فإذا كانت المظلة السعودية - الإيرانية هي الغطاء الإقليمي لاستقرار لبنان المذهبي، وتوازيها مظلة دولية للاستقرار الوطني، فإنّ تكريس جنوح لبنان في اتجاه إيران يعني انهيار المظلة المذهبية. وعليه، يمكن توقُّع كثير من التحوُّلات.

وللدلالة على صحّة نظرتهم، يقول هؤلاء: «كلّ المواجهات التي كانت ترتفع فيها الحساسيات المذهبية إلى حدود مثيرة للقلق، كانت تطوِّقها التسويات المغطاة سعودياً وإيرانياً، من حروب طرابلس إلى 7 أيار فعبرا وعرسال وسواها.

ولذلك، إذا قرَّرت السعودية الابتعاد، وتفرَّدت إيران بلبنان، فستسقط المظلَّة... إلّا إذا تمّ استبدال السعودية بقوة إقليمية أخرى، سنّية، تأخذ على نفسها رعاية السنّة في بلدٍ بات يقوم على التوازن المذهبي ببعديه الداخلي والإقليمي.

لكنّ آخرين يعتقدون أنّ المعادلة السعودية - الإيرانية لم تتغيّر في لبنان، وأنّ ما تقوم به السعودية حالياً لا يعدو كونه ورقة ضغط لتذكير لبنان بأنه في حاجة إلى التوازن بينها وبين إيران. وتالياً، فإنّ السعودية ستستأنف دعمها وتحتفظ بمظلتها الواقية للبنان.

حتى الآن، ليس واضحاً ما إذا كان لبنان مرشحاً لدخول مرحلة جديدة من المغامرات الأمنية. لكنّ عودة لبنان صندوق بريد للقوى الإقليمية أو ساحة نزاع بينها قد تكون أشدّ ضرراً هذه المرة، لأنّ الشرق الأوسط بكامله يعيش مخاضاً عسيراً.

ولكن، سواءٌ ذهب لبنان إلى المغامرات الأمنية أم لا، فالواضح أنّ العنوان الأمني سيتمّ استخدامه «فزّاعة» لإثارة المخاوف من إجراء الانتخابات البلدية، وفقاً للطريقة التي تمّ فيها تطيير الانتخابات النيابية حتى اليوم.

وقبل أيام، سُئل أحد المتابعين للملف عن رأيه في إمكان إجراء الانتخابات البلدية في موعدها، فردّ وهو يهزُّ برأسه: «الانتخابات البلدية؟... العَوَض بسلامتكم! في لعبة المصالح السياسية، لا مجال لـ»الترف الديموقراطي».