«كلمة السرّ» لا يملكها في لبنان سوى طرف لبناني واحد هو «حزب الله»، لأنّه جزءٌ من حركة اللاعبين في الشرق الأوسط. ولذلك، ليست التجاذبات الداخلية الحالية سوى محاولات لتحقيق المكاسب السياسية في الوقت الضائع. وأما القرارات الحاسمة فمرهونة بما يجري في سوريا. في الأيام الأخيرة، ظهرت معالم الصورة أكثر وضوحاً في سوريا. ويكشف السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد، وهو كبير الباحثين في معهد الشرق الأوسط، أنّ سوريا ذاهبة إلى التقسيم والتفكّك: منطقة للأكراد في الشمال الشرقي، منطقة لـ«داعش» في الجنوب الشرقي، منطقة للنظام في الغرب، ومنطقة لقوى المعارضة السنّية في المناطق الأخرى. وبعدما نجح الروس والإيرانيون في تثبيت مناطق النظام وتوسيعها وحمايتها، يتدخل الأتراك والسعوديون الآن لتثبيت مناطق المعارضة السنّية وحمايتها.

وليس جديداً تهديد تركيا باجتياح الشمال السوري حتى حلب. وسبق للرئيس حافظ الأسد أن تلقّاه في منتصف الثمانينات من القرن الفائت، إذا لم يسحب يده من حزب العمال الكردستاني. يومذاك، في ذروة الحرب الباردة بين الحلف الأطلسي وحلف وارسو، رضَخ الأسد الأب. باعَ أوجلان واشترى حلب.

وبعد ثلاثة عقود، تتكرَّر المعادلة. والمثير أنّ حلف وارسو سقط منذ ربع قرن، لكنّ روسيا القيصرية حافظت على دور استراتيجي لها في سوريا. ويخوض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المواجهة إياها مع الرئيس بشّار الأسد والأكراد المدعومين من القيصر الروسي فلاديمير بوتين.

سبق لأردوغان أن هدَّد الأسد الإبن، قبل أسابيع باجتياح الشمال السوري حتى حلب. ويقول أحمد داود أوغلو إنّ على الأتراك ديناً يجب أن يُسدّدوه لحلب عمره 100 عام، عندما خاض أهلها حرب الدفاع عن المدن التركية في الحرب العالمية الأولى. والمقصود هنا «سفربرلك» التي ارتكب فيها العثمانيون حربَ تطهير ديني وعرقي في أرجاء السلطنة، بقي الغربيون في موقف المتفرِّج إزاءها.

إذا نفَّذ أردوغان تهديده باجتياح الشمال السوري حتى حلب، فسيكون ذلك أوّل تكريس عملي لتقسيم سوريا. فالأتراك، ومعهم السعوديون، لن يمسّوا منطقة نفوذ الأسد، بل سيرسمون له الحدود من الجهة الشرقية، وسيكون الهدفُ الأساس منع الأكراد من تحقيق التواصل داخل الشريط الكردي الممتدّ عبر الحدود السورية - التركية، لئلّا يقيموا كيانهم.

في الصيف الفائت، نجَحت القوى السنّية المدعومة تركياً في اختراق منطقة الأسد، عند نقاط حدودية ضيّقة جداً مع تركيا، ما كاد يعطي هذه القوى منفذاً وحيداً تحتاج إليه على البحر. ولكن سرعان ما أعاد النظام سيطرته على المنطقة، بموافقة تركية على الأرجح. لأنّ أنقرة تدرك حدودها في سوريا. فالمنطقة العلوية خطّ أحمر سياسيّ لا عسكريّ فحسب.

ودخلت موسكو بتغطية دولية وإقليمية شاملة لتكريس منطقة الأسد، أيْ منطقة النفوذ العلوية- الشيعية. وبات سعي تركيا محصوراً بإحباط المحاولات لقيامِ كيانٍ كردي قد يتسبَّب بتفجيرها من الداخل.

فعلى جانبَي الحدود التركية- السورية، غالبية كردية. وإذا قام كيانٌ كردي في سوريا، مفتوح على الكيان الكردي في العراق، فهذا يعني أنّ أكراد تركيا، وعددهم 23 مليوناً، سيتلقَّون الدعم لحراك انفصالي يدمِّر تركيا، خصوصاً إذا تحرّك العلويون أيضاً في الإسكندرون (هاتاي).

وبالنسبة إلى الأكراد، المطلوب اليوم ليس تقسيم المنطقة بإسقاط مفاعيل اتفاقية سايكس- بيكو، بل إعطاء الحقوق الطبيعية للمجموعات العرقية والطائفية التي تتكوَّن منها المنطقة، والتي جرى التآمر عليها وتقسيمها وفقاً لمصالح المنتدبين في سايكس- بيكو. فما يُسمّى اليوم تقسيماً، يسمّيه الأكراد تصحيحاً.

وهكذا، فالعودة إلى سوريا السابقة مستحيلة. وأما بناء سوريا الجديدة فيحتاج إلى عمليات إنضاج معقَّدة وطويلة الأمد، عسكرياً وسياسياً وديموغرافياً. وثمّة إشارات إلى ذلك:

1- فشل مؤتمر «جنيف 3»، ما يعني أنّ المسار السياسي نحو تسوية نهائية لم يبدأ بعد.

2- رسوخ السيطرة العلوية على «سوريا المفيدة»، أيْ المنطقة الساحلية والشريط المحاذي لمنطقة «حزب الله» في لبنان، حتى جنوب دمشق، بموافقة إقليمية ضمنية.

3- سيطرة «داعش» على منطقة شاسعة شرقاً حتى حدود العراق.

4- تلاشي القرار من أيدي السوريين وتحوُّلهم مادة في أيدي القوى الإقليمية والدولية.

وأما العنصر الصامت، ولكن الأشدّ خطراً، فهو النازحون السوريون. فمن أصل 23 مليون نسمة، غادر سوريا نحو أربعة ملايين ونصف المليون، معظمهم إلى الدول المجاورة، ولاسيما تركيا، لبنان والأردن. وهناك أيضاً نحو 8 ملايين نازح سوري إلى مناطق أخرى داخل سوريا.

وهذا يعني أنّ أكثرَ من نصف سكان سوريا غادروا قراهم ومنازلهم، بلا أفق للعودة، ما يُسهّل تكريس الفرز المذهبي والعرقي، فيما دول الجوار السوري تعيش كلها مآزقَ كيانية تاريخية. وهناك تقديرات بنشوء موجات جديدة من النازحين في الفترات المقبلة ستهزّ الكيانات المجاورة.
فلبنان مثقل بمتاعب سياسية واقتصادية وأمنية وديموغرافية تُهدّده حالما يُقرّر المجتمع الدولي سَحْب المظلة عنه.

والأردن هو أساساً دولة النازحين الفلسطينيين، المغطاة بدعم أميركي وأوروبي للعرش. وأما تركيا فليست سوى فسيفساء عرقية ومذهبية تحصل على استقرارها النسبي ما دامت تؤدي الدور المطلوب منها غربياً.

ولذلك، هناك مَن يعتقد أنّ استخدام قنبلة اللاجئين السوريين قد يكون مقصوداً للدخول في المرحلة الجديدة من الصراع في سوريا ومجمل الشرق الأوسط. وهنا يمكن فهم المطالب التي تعمل قوى دولية على تسويقها، والتي رفضها لبنان غداة مؤتمر لندن الأخير.

وفي قراءة بعض المتابعين أنّ اتفاقية سايكس- بيكو عاشت مئة عام، وهي عبَّرت عن مصالح فرنسا وبريطانيا آنذاك. وأما اليوم، فالمطلوب تقسيم جديد للمنطقة يراعي مصالح القوى الجديدة، ولاسيما الولايات المتحدة وإسرائيل. وسيضطلع بعض القوى الدولية والإقليمية (روسيا وإيران، وربما تركيا) بأدوار يحصل فيها على نسب من الأرباح. وأما العرب فسيكونون المادة الاختبارية الموضوعة على الطاولة.

وهنا يجدر التوقف عند المطالبات التي تلقّاها لبنان في الفترة ألأخيرة، إذ شنّ البعض، عشية مؤتمر لندن، حملة انتقادات عنيفة للشروط اللبنانية التي فُرضِت على النازحين في كانون الثاني 2015، والتي حدَّت نسبياً من دخولهم إلى لبنان.

ويطالب البعض بـ«إنهاء نظام الكفالة وإلغاء رسوم تجديد الإقامة، وإلغاء التعهُّد بعدم بالعمل»، و«يطمئن» إلى أنّ التدابير المتخذة للحدّ من عدد
السوريين المقيمين في لبنان فشلت، وأنّ معظمهم «لن يعود إلى سوريا ما دامت الحرب هناك مستمرة». والواضح أنّ ما يُراد للنازحين السوريين والفلسطينيين هو أن يكونوا مادة الاشتعال التي بها سيتمّ إنضاج المشروع الجديد في الشرق الأوسط.

وعبثاً يتلهّى مسؤولو الكيانات في البحث عن دولاراتٍ ضائعة، في مؤتمرات لا يُراد منها حلّ أزمات اللاجئين، بل تمويل ضياعهم في بلاد الشتات الواسعة... لأنّ إسرائيل تريد في هذا الخضم إنهاءَ أزمتها التاريخية، أزمة وجودها، بلعبة تبادلات ديموغرافية خطرة!

وعبثاً يحاول اللبنانيون البحثَ عن تسوياتهم واستقرارهم، ما لم تأتِ «كلمة السرّ» من سوريا، اليوم مجدّداً كما في المراحل السابقة!
في حينها كانت وحدة المسار، واليوم وحدة المصير.