يرجع تاريخ حركة تحديث الفكر الديني الى بدايات القرن التاسع عشر على ايدي مجموعة من علماء الدين والمفكرين كان في مقدمهم رفاعة الطهطاوي الذي ارسل مبعوثا من قبل الشيخ حسن العطار شيخ الازهر , مرشدا دينيا لاول مرة على رأس بعثة طلابية مصرية الى باريس ,وقد دوّن الطهطاوي كل ما رآه واكتشفه من التنوير الاوروبي ومن انجازات العقل الحديث والتنظيمات والنظم في مجتمعات مشت في مسار التجديد والاصلاح بوتيرة متسارعة , في كتابه " تخليص الابريز في تلخيص باريز" ومنذ ذاك الزمن لم تتوقف حركات التحديث والتجديد في الفكر الديني وخاصة ما يتعلق منها بالسلطة والحكومة والدولة.

هذا يعني ان ابواب التحديث للتفكير الديني والنقاش في كثير من المسلمات الفكرية الدينية  قد فُتحت , وبدأ يتشكل خطاب جديد وبالتالي بدأ يتشكل تراكم من الافكار والرؤى حول علاقة الدين بالسلطة , وحول اليات تشكيل السلطة وحول مشروعيتها والى ما هنالك من عناوين كثيرة , الى ان جاء الكاتب والمفكر المصري المعروف " علي عبدالرازق " وفجّر في كتابه الشهير " الاسلام وأصول الحكم " قضية الخلافة " أي السلطة " على انها أمر عرفي وليست امرا دينيا , فكان اول من فجر هذه القضية في العصر الحديث , وهناك ايضا بعض المفكرين المسلمين ممن ينكرون الية الحكم المتداولة في الفكر الديني , ويرون ان السلطة اي الحكومة في الاصل هي مدنية عرفية وليست دينية , وان منشأ الشرعية للدولة مدني ينبع من الناس وليس دينيا , ومن هؤلاء السيد خاتمي والشيخ محمد مهدي شمس الدين وعبدالرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده وجمال الدين الافغاني , وغيرهم الكثير.....

وهؤلاء يقولون ان الاسلام جاء بتعليمات سياسية واخلاقية وليس بنظرية سياسية في الحكم , فليس في الاسلام نظام حكم جاهز يطبق في كل زمان ومكان , بل في الاسلام توجيهات وتعليمات تؤكد ضرورة قيام الناس بنشر العدل على المستويات كافة , ويوجه تعاليمه وارشاداته الى الحكام والمسؤولين قبل الناس , ويوصيهم باقامه العدل ورفع الظلم وانصاف الرعية وبسط الامن وما الى ذلك , فلذلك ان الحكم هو شأن بشري وليس شأنا الهيا.

بعد هذا العرض السريع الموجز لمسار حركة التحديث في التفكير الديني نقول : ان ثمة هاجسا برز لدى اصحاب الفكر الديني التقليدي منذ ان بدأت حركة التحديث او منذ ان بدأ يظهر النقاش حول فكرة التحديث واعتبروا ان هذه الافكار التحديثية هي افكار غريبة عن الاسلام وتعاليمه لان منشأها الغرب " الكافر" , وبدأوا يشكلون اسوارا في وجه اي فكرة معاصرة متعلقة بالتحديث الاجتماعي والسياسي بحجة ان الاسلام فيه كل شيء ويتضمن كل عناوين التحديث وبالتالي لسنا بحاجة الى اي تجربة خارجية متشكلة في بيئات مختلفة عن بيئاتنا من حيث الثقافة والدين والتقاليد والعادات , فلذلك ترى  الاسلاميين بمجرد الحديث عن اي حركة تجديدية او اي حراك يهدف الى التحديث في التفكير الديني , يستنفرون كل ما لديهم من تراث لوضعه سدا منيعا في وجه اي حركة اصلاحية , الا انهم ادركوا في لحظة ما انهم لا يستغنون عن التجارب الانسانية في المجتمعات الاخرى المختلفة , فوقعوا بين نارين,

 الاول نار التنازل والاعتراف بضرورة اخذ هذه التجارب والنماذج الغربية  والعمل بها بعد اعتمادها بما هي هي وهذا يعني انهم يسلمون بان تراثهم لا يستطيع –( بما فيه من نقص على المستوى النظري او على مستوى التجارب التاريخية للسلطة )- سدّ الثغرات الواقعية والتي باتت تشكل مشكلة لهم في مواجهة الاجتماع الاسلامي الذي يلح بطلب الحل لكثير من القضايا المعاصرة والتي تمس حياتهم اليومية ,

 والثاني نار اسلمة المعارف المنتجة خارج بيئتهم التراثية قبل الاخذ بها  , وهذا ما حصل بالفعل اذ بدأ بعض المفكرين الاسلاميين يروجون لنظرية الاسلام هو الحل , تمهيدا لأسلمة المعارف والمصطلحات  لان الاسلام يجمع في تعاليمه وارشاداته كل ما يحتاجه الاجتماع الانساني , وما قاله وانتجه الغرب هو في الواقع موجود في الاسلام ولكن بعناوين مختلفة , منها " الديموقراطية مثلا: حيث قال الاسلاميون ان الشورى هي عين الديموقراطية ", والى ما هنالك من مصطلحات معاصرة مثل السلطة الحرية العدالة حقوق الانسان , كل هذا وما شابهه تبناه الاسلاميون بتعريفات جديدة اسلامية, مما ادى الى تشويه انتاج الاخر وعرقلة امكانية التطبيق في مجتمعاتنا , والسبب في عدم امكانية التطبيق العملي للتجارب والنماذج المستوردة والمؤسلمة , واضح اذ ان المشكلة ليست في المصطلحات ولا في العناوين والمسميات , بل ان المشكلة في اصل البنية الفكرية الاجتماعية المعتمدة على تراث اسلامي لم يتعرض للغربلة والنقد , و بسبب اشكالية معقدة في الفكر والتفكير الديني وهنا تكمن المشكلة والحل .

  برأينا ان سبب هذا الخوف والتردد  هو الخلط بين الدين كنص اول انزله الله بواسطة الانبياء والرسل , وبين الفكر الديني الذي هو عبارة عن فهم البشر للنص الاول  ,هذا الخلط  بين النص الالهي الاول وبين النص البشري الثاني أعطى الفهم البشري للدين صفة  المقدس الثابت على الحق الذي لا يخطيء .

من هنا نحن امام معضلة كبيرة , تعتبر من أهم المقدمات الفكرية الاصلاحية قبل البت في تشكيل او تأسيس خطاب اسلامي ديموقراطي مدني , المعضلة تكمن في عملية التفريق بين نصين من النصوص الدينية , النص الالهي المقدس والنص البشري اللامقدس , لان التراث الاسلامي المعتمد عليه في تأسيس خطاب ديني جديد متشكل منهما, فلا امكانية للتجديد والتحديث ما دامت الحركات الاسلامية وخصوصا السياسية منها تعتمد على هذا التراث من حيث كونه مقدسا , وبالتالي لا يجرؤ أحد على توجيه النقد له أو رفض اي فكرة مستوردة منه , فلا بد من اعادة النظر في شكل  العلاقة مع التراث الديني  بهدف تحويل هذه العلاقة من علاقة تعبدية الى علاقة نقدية , وبالتالي يمكننا تأسيس ورشة فكرية  لتكريس مفاهيم جديدة معاصرة مستوحات من التراث الاسلامي بعد عملية الغربلة والتمييز بين ما هو مفيد وصالح وبين ما هو مضر وفاسد.

خلاصة المقدمة

  نحن كمسلمين بحاجة الى التمييز بين مفهومين اثنين في الفكر الديني,تمييزا يساعدنا على تصور شكل الدولة كسلطة خاضعة لاختيار البشر,وليس لها علاقة بالحق الالهي,

وبين الدين الذي هو شريعة منزلة من الله,ليست من شأن البشر,بل هي شأن الهي.أي يجب أن نضع السلطة في اطار بشري,ونمنع عنها أي اتصال بالحق الالهي,لأن السلطة شأن بشري محض لا علاقة لها بالحق الالهي