قرارُ «داعش» إزاحة «جبهة النصرة» واحتلال جرود عرسال ومنطقة الحدود اللبنانية - السورية ليس وليدَ ساعته. إنه متَّخذ منذ الصيف الفائت، وقد ظهرت ملامحه التنفيذية خلال الأشهر الفائتة. ويبدو أنّ «تنظيم الدولة الإسلامية» قد وجد اللحظة مناسبة لإنجاز الخطوة. وإذا تحقَّق له ذلك، فستكون بقعة الحدود وعرسال، ولبنان عموماً، أمام اختبار جديد. يمكن اعتبار البقعة الممتدة من عرسال وجرودها وصولاً إلى الحدود اللبنانية - السورية جزءاً من مناخ الحرب الأهلية السورية، لا جزءاً من الحالة اللبنانية. ففي البلدة التي يصل عددُ سكانها اليوم إلى أكثر من 90 ألف نسمة، ليس هناك سوى 35 ألفاً أو 40 ألفاً من أهلها اللبنانيين، والباقون نازحون من سوريا.

ومخيمات السوريين في جوار البلدة باتت تضم حشوداً يصعب فيها إحصاء عدد الداخلين وعدد الخارجين. أما السيطرة في الجرود فكانت غالباً لـ«النصرة»، وصولاً إلى الحدود. ويقوم الجيش اللبناني في هذه البقعة بمنع تمدُّد المسلحين إلى مناطق أخرى، وخصوصاً في اتجاه البلدات المجاورة كالقاع ورأس بعلبك.

ويعتبر كلٌّ من «داعش» و«النصرة» أنّ المواجهة بينهما في هذه المنطقة هي جزءٌ من المواجهة القائمة بينهما في سوريا. وفي ربيع العام الفائت، أحرزت «داعش» تقدُّماً في عدد من المناطق السورية، ومنها القلمون، على حساب «النصرة».

لكنّ «الجبهة» بقيت متفوِّقة في المنطقة اللبنانية الحدودية وصولاً إلى عرسال. ولذلك، بدأت «داعش» تُخطّط لبسط نفوذها نحو جرود البلدة سعياً إلى تحقيق ثلاثة أهداف:

1 - جعل المنطقة اللبنانية الحدودية خلفية آمنة لها.

2 - توجيه ضربة جديدة إلى «النصرة» تؤدي إلى إضعافها.

3 - الإمساك بورقة ضاغطة على الحكومة اللبنانية. فإذا سيطر التنظيم على البقعة الحدودية، أصبحت عرسال أسيرة له. وفي ذلك يكون قادراً على ممارسة الضغوط على لبنان ومن خلاله على القوى الدولية الراعية لاستقراره. وفي يد «داعش» أيضاً ورقة العسكريين المخطوفين.

وثمّة مَن يتحدث عن هدف رابع، هو ذلك الذي كشفه قائد الجيش العماد جان قهوجي، العام الفائت، أيْ طموح «داعش» إلى التمدُّد من عرسال إلى الساحل اللبناني شمالاً، بحيث تقيم لـ«دولتها» المنفذ البحري الوحيد.

وهذا الهدف كان ممكناً تحقيقه لو نجحت «داعش» في زرع الفوضى في لبنان، ولاسيما البقاع والشمال. لكنّ الجيش أطفأ النقاط الساخنة التي كان يمكن للتنظيم أن ينطلق منها لتوسيع انتشاره. وتلقّى لبنان دعماً أمنياً وعسكرياً في هذا المجال، من القوى الدولية الراعية لاستقراره.

في سوريا، أدّى تدخُّل روسيا عسكرياً إلى تراجع القوى المعارضة لنظام الرئيس بشّار الأسد. وتلقَّت «داعش» ضربات من طيران التحالف الدولي وروسيا. لكنّ التدخّل الروسي أوقع الهزيمة الحقيقية بـ»النصرة» والجماعات الحليفة لها.

فالقوى الإقليمية التي تدعم «الجبهة» وحليفاتها تخلّت عنها نهائياً. وأما تلك الداعمة لـ»داعش» فما زالت تمنحها الدعم الذي يسمح لها بالبقاء على قيد الحياة، لضرورات مختلفة.

كما أنّ «داعش» تستفيد من التداخل الحاصل بين سوريا والعراق، والمردود الناتج عن بيع النفط. وثمّة مَن يعتقد أنّ النظام وحلفاءه ليسوا مستعجلين في القضاء على «داعش» لأنهم يحتاجون إلى وجودها ظرفياً كمطيَّة لهم.

والقرار بإضعاف القوى المعارضة لنظام الأسد كان نتيجة للصفقة التي تمّت على هامش مؤتمر فيينا حول الملفّ النووي، والتي قضت بإعطاء إيران وحلفائها أوراق قوة في العراق وسوريا ولبنان، كجزء من عملية المقايضة مع واشنطن. أما التدخل الروسي فتمّ بمباركة أميركية وقبول إقليمي.

وبعدما كان طموح الأسد، بدعم من «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني، أن يثبت مواقعه التي تهدَّدت في الساحل ودمشق والمنطقة الفاصلة بينهما، إنتقل إلى الموقع الهجومي، بدعم روسي.

وهو اليوم يتقدَّم عبر 4 محاور: الساحل، حلب، معضمية دمشق ودرعا. ومن خلال هذه الشبكة يرمي النظام إلى تحقيق الترابط على امتداد الشريط من الساحل إلى الجنوب، مروراً بحمص وحلب وحماه ودمشق.

إذاً، في ظلّ هذه المعطيات، تقوم «داعش» منذ أشهر بخطوات عملانية في اتجاه السيطرة على البقعة العرسالية الممتدة حتى الحدود، من خلال عمليات قصف وخطف وتفجير استهدف «النصرة» والمجموعات العاملة معها هناك، ومنها تفجير مقرّ «هيئة علماء القلمون» الذي أدّى إلى مقتل العديد من أركانها.

وتقوم «داعش» بعملية إفراغ مبرمجة لتلك البقعة من عناصر «النصرة». وهي استفادت من الضيق المادي الذي تعانيه «الجبهة» لتغري العديد من عناصرها بالانتقال إلى صفوفها، وتمكنت من تحقيق هذا الهدف جزئياً.

واليوم، فيما يتلقّى معارضو النظام دعوات إلى الانطلاق في مفاوضات تقرِّر مصير سوريا، تبحث القوى الإقليمية عن مصالحها. ولذلك، تحاول «داعش» وداعموها فرض حضورهم في اللعبة. ومنطقة القلمون وامتداداتها حتى عرسال مهمة جداً من الناحية الاستراتيجية، خصوصاً بعدما اطمأنّ النظام إلى إحكام قبضته على العاصمة، بدعم روسي.

وكانت تقارير أمنية عبّرت أخيراً عن شكوك في أنّ مجموعات من «داعش» تسلّلت إلى تلك البقعة، تحت ستار النازحين. وبدت لافتة كثافة الوافدين إلى مخيمات النازحين من فئة الرجال والشبان، لا النساء والأطفال والشيوخ. وهذا ما اعتبرته مراجع أمنية مؤشراً إلى أنّ هناك تسللاً لمجموعات «مكَوْدرة» بين النازحين الوافدين عبر ممرّات غير شرعية في معظم الأحيان.

ويبدو أنّ «داعش» استطاعت، في معارك اليومين الفائتين، تحقيق تقدُّم في خطتها للسيطرة على البقعة اللبنانية من الحدود. فغالبية المعابر بين لبنان وسوريا باتت في يدها. ومن البديهي أن يكون هدفها التالي بلوغ مشارف عرسال، واحتلال المواقع التي تشغلها اليوم «جبهة النصرة». وهذا الأمر ستضغط «داعش» لتحقيقه.

وإذا حصل ذلك، فسيطرح احتمالات مختلفة على المستوى الأمني في تلك المنطقة، وعلى المستوى اللبناني ككلّ، ومنها:

1- إذا سيطرت «داعش» فستكون المنطقة عرضة لضربات التحالف وروسيا، خصوصاً أنّ الحدود مع سوريا في تلك المنطقة ليست واضحة المعالم. وهذا ما يؤدّي إلى جعل لبنان ساحة للضربات ضدّ «داعش».

2- ستزداد احتمالاتُ اندلاع مواجهة عسكرية مع قوى لبنانية في عرسال ومحيطها، سواءٌ مع الجيش أو مع «حزب الله».

3- قد يدفع الأمر بـ»داعش» إلى اللعب مجدَّداً بالأمن اللبناني، من خلال عمليات في مناطق مختلفة.

4- سيتورّط لبنان في مأزق التخلّص من «داعش»، علماً أنه واقع أساساً في مأزق عسكريّيه المخطوفين لديها، في غياب أيّ معلومات عنهم.
وفي الخلاصة، سيكون احتلال «داعش» لهذه البقعة مغامرة مُكلفة يخوضها لبنان، وتدفع ثمنها عرسال وأهلها وجوارها أولاً، والنازحون السوريون ثانياً.

ومن سخريات القدر أن تكون هناك مفاضلة في لبنان بين إرهابي مقبول وقابل للمفاوضة كـ«النصرة» وإرهابي مرفوض ورافض للمفاوضة كـ«داعش»!