عام 2015 فاجأ رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع اللبنانيّين بزيارة الرابية، في وقت راهن كثيرون على أنّ الوفاق بينه وبين رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون أضحى من المستحيل بعد الاصطفافات العمودية المتناقضة نتيجة الجراح التي نكأتها السنين عوض أن تضمّدها. زيارة الرابية أسَّست لورقة «إعلان النوايا» التي دفعت عون إلى زيارة معراب بدوره عام 2016، ليعلنَ جعجع ترشيح الجنرال الى رئاسة الجمهورية على أساس «الوصايا العشر» التي أيّدها عون، لتؤيّد الغالبية المسيحية هذا الاتفاق. لكنّ العرس في رأي البعض المتبقّي من المسيحيين لم يكتمل بعد، إذ إنّ لائحة المدعوين لم تشمل بقية افراد العائلة المسيحية لشرب نخب الجمهورية. وانطلاقاً من المشهد العام، لم يستبعد قريبون من الرابية ومعراب لقاء الخصمين اللدودين الأقوى على الساحة المسيحية يوم استدعى ذلك الخطر المُحدق بالرئاسة الاولى، وهم اليوم يرون أنّ الخطر الداهم نفسه يستوجب مصالحة مسيحية كاملة لتنقية الذاكرة، والتي تستحق بدورها لقاءً غير معهود، ومنشود منذ زمن بين رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية وجعجع، ولا سيما أنّ هناك جرحاً تاريخياً كبيراً لم تضمّد آثاره السنون الطوال التي مضَت على رغم أنّ بَطليه جلسا مراراً جنباً الى جنب تحت سقف بكركي، وأعلنا مراراً أنّ صفحة الماضي طويت بينهما. إلّا أنّ الامر لم يصبح حقيقة ملموسة بعد، فما الذي يمنع لقاءهما الثنائي المؤجّل؟

ومن هنا يطرح السؤال: أين أصبحت علاقة «المردة» و»القوات اللبنانية»؟ وماذا يمنع لقاء جعجع وفرنجية في ظلّ مشهد المصالحات الطاغي اليوم على المشهدية السياسية العامة والمسيحية خصوصاً؟ وهل يستكمل جعجع ما بدأه انطلاقاً من حرصه على استكمال المصالحة المسيحية وحفاظاً على الرئاسة الأولى وعلى الثوابت الايجابية التي أنتجَتها لجنة مشتركة بين «القوات» و«المردة» شُكّلت منذ انتخاب البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، لمتابعة مهمة التقريب بين جعجع وفرنجية وقواعدهما؟

قد يرى البعض أنّ ما كان جائزاً قبل اتفاق معراب لم يعد مطروحاً اليوم ولا سيما أنّ فرنجية سارَع في الليلة نفسها لإعلان الاتفاق الى زيارة الصرح البطريركي ليعلن على الأثر «مَن يريدني يعرف عنوان منزلي».

البعض قرأ الدعوة رسالة تحدٍّ وأنّ فرنجية كان يقول: «لا إله...»، أي أنه كان يُصرّ على ترشّحه إلى الرئاسة معلناً رفضه الأمر الواقع، وأنها دعوة خاصة بالجنرال فقط! فيما يرى المتابعون للمجريات أنّه يحق لمختلف الأطراف أن تقرأ دعوة فرنجية على أنها دعوة عامة وليست خاصّة، ويمكن للحريصين منهم، وخصوصاً على مصلحة المسيحيين والمصالحة غير المنقوصة، استشعار الدعوة وقبولها والمحاولة... والمجازفة حتى! ولِم لا؟ لا سيما اذا كان الأمر يستحق المجازفة... فكيف اذا كانت الجمهورية هي الهدف والمستهدف؟

لا يستبعد مقرّبون من «القوات اللبنانية» أن يتلقّف جعجع الدعوة، وهو الذي بَدا الصامت الأكبر بعدما دخل الإستحقاق الرئاسي مرحلة الركود، لكنّه كشف سرّ صمته وفاجأ الجميع وبايَع عون ليبدأ قطار المصالحات.

في المقابل، اعتبرت أوساط مقرّبة من فرنجية أنّه كان المبادر الاول في السابق عبر اتصال هاتفي حاولَ من خلاله التواصل مع جعجع إثر خروجه من السجن في تموز 2005، إلّا أنّ جعجع تمنّع عن الرد على المكالمة لأسباب عرفها هو، وما زال يجهلها البعض. في حين قرأها المتابعون حينها أنها بسبب تحالفه الجديد مع الرئيس سعد الحريري.

فإذا صحّت هذه الفرضية، أي إذا كان الحلف الجديد مع الحريري وَقتها قد شكّل السبب الفعلي لتمنّع جعجع عن الرد على فرنجية، فإنّ هذا الحلف نفسه يساعده اليوم على المبادرة وملاقاة فرنجية والحريري معاً، إذ إنّ فرنجية أصبح الحليف الأقرب للحريري، الحليف الدائم المفترض لجعجع.

لكنّ الأوساط القواتية تلفت إلى أنّ السبب يومها لم يكن في الحقيقة استرضاءً للحريري بمقدار ما كان بسبب الدماء التي لم تكن قد جَفّت بعد حادثة الكورة التي أدّت الى مقتل شابّين من مناصري «القوات»، فتمنّعَ جعجع عن الرد على مكالمة فرنجية بحجة أنّ مُطلق النار ينتمي الى «المردة» وقد هُرّب الى سوريا ولم يسلّم الى الأجهزة الأمنية.

بينما يرى مؤيّدو هذه المصالحة اليوم أنّه سواء ثبت السبب الأول أو صحّ السبب الثاني، فإنّ المواقف السياسية المسيحية المتقدمة للبعض، وخصوصاً جعجع وعون وفرنجية، تشير الى انها أصبحت جاهزة لطَيّ الصفحات السياسية السوداء حتى الأكثر دموية منها!

واليوم يجدر استذكار جواب قياديين في تيّار «المردة» عندما سألتهم «الجمهورية» بداية العام 2015 عن موعد اللقاء بين الزعيمين الشماليَين، فأكدوا أن لا شيء يمنع انعقاده وأنّ اللجنة المشتركة تجتمع دورياً والأجواء إيجابية، واذا ما استجدّت ضرورة وطنية داهمة أو خطر وجودي يُهدّد المسيحيين فإنّ اللقاء سيتم حكماً بين جعجع وفرنجية... فيما أعلنها فرنجية بنفسه خلال إطلالاته الاعلامية بقوله: إذا داهم الخطر المسيحيين فنحن وجعجع في خندق واحد.

وانطلاقاً ممّا ذكر وحفاظاً على الرئاسة الاولى والجمهورية، ومن أجل استكمال المصالحة وتنقية الذاكرة ولكي لا يفسّر اللقاء الذي جمع القطبين الأبرزين عون وجعجع إلغاءً للأقطاب المسيحية المتبقيّة، يطرح السؤال الكبير: هل من خضّة مسيحيّة أخرى؟ وهل يفعلها جعجع... ويقصد بنشعي؟